حرب لذيذة بين المطبخ الدمشقي والحلبي بالطناجر والملاعق

لا يمكن أن تكون في معركة بين المطبخ الدمشقي والمطبخ الحلبي اللذين ينضويان تحت سقف المطبخ الشامي، وإن وقعت أو اختلقها أنصار أحد المطبخين فهي من باب المنافسة والمفاخرة، لأن لكلّ منهما مميزاته ومكوّناته، فالأكل الدمشقي يعتمد في مجمله على الخضار والقليل من اللحمة، في حين يعتمد المطبخ الحلبي على لحم الضأن خاصة ولكنهما يلتقيان في المقبلات، أما أنصار المطبخين فيأكلان ما لذّ وتوفر من المشاوي أو المحاشي.
دمشق- يقول الدمشقيون والدمشقيات مفتخرين بمطبخهم الذي اكتسب لذته مع تعاقب الحضارات على أقدم عاصمة في التاريخ “دمشقي وهني والطعم زكي”، ليرد عليهم الحلبيون، “حلب أمّ المحاشي والكبة”، والكبة والكباب من الأكلات التي اتخذت شهرة عالمية، بل لا يكاد عربي أو أجنبي يزور سوريا إلا ويطلب الأطباق الحلبية التي تتنوع وتتعدد حتى أصبح الحلبيون أنفسهم لا يستطيعون حصر مثل هذه الأطباق.
هي حرب لذيذة أساسها المفاخرة بين النساء في جلساتهن لتتسع في ما بين طهاة هذين المطبخين، فيتباهى الحلبي بأنواع الكبة والكباب، في حين يتغنى الدمشقي بـ”الأوزي (أرز ولحم مفروم) والصفيحة” وغيرها من الأطباق التي تعود في شهرتها إلى دمشق بمكوناتها البسيطة التي تعتمد في غالبيتها على الخضروات، ولا يزال البعض من أهلها يعتبرها حكرا عليهم.
وتعلق الحلبية ساخرة، “عن أي مطبخ يتحدث أهل دمشق، فلينشغلوا بالمقلوبة التي لا يحتاج تحضيرها سوى قلي حبتين من الباذنجان وطبخهما مع كوب من الأرز”. وتتفاخر بأن سر المطبخ هو البهارات، فماذا تضع الدمشقيات غير الكمون في المحاشي مثلا، وتجيبها الشامية متعجبة، “ومن تطبخ المحشي دون كمون؟”.
حرب المفاخرة تتسع بين أنصار المطبخين على مواقع التواصل ويتدخل فيها الرجال الذين لا همّ لهم سوى ملء بطونهم، كما تتفق كل السوريات على ذلك ليقلن إن الرجل يأكل من الطبق وعينه على الطبق الآخر، مطلقا أحكاما تتلخص في أن هذا الطبق طيب المذاق، أما الطبق الآخر فينقصه بهار وفيه مزيد من الملح وغيرها من انتقادات من لا يعرف أسرار المطبخ، وكما يقول المثل السوري “شو ما طبخت العمشا جوزها يتعشى”.
وتؤكد سيدات المطابخ من السوريات، أنه لا يجوز لسواهن وبعض الطهاة من الرجال إطلاق الأحكام على الأطباق الدمشقية والحلبية، ردا على ناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي من أنصار المطبخيْن الذين يتفاخرون كل منهم بطيبات طعامهم، مستندين في ذلك على صور الأطباق اللذيذة والمقبلات الشهية، وبعض الاتهامات، كتبعية المطبخ الحلبي إلى المطبخ التركي ليرد الحلبيون، إن المطبخ الحلبي يمتد إلى غازي عنتاب والموصل، فضلا عن اللاذقية، بينما المطبخ الدمشقي ينحصر في باب الحارة.
يقول الدمشقيون إن المطبخ الحلبي أساسه اللحمة والدهون مقرّين أنه مفتوح الخيارات بقدرته على خلط المذاقات البعيدة عن بعضها البعض، في حين أن المطبخ الدمشقي صحيّ وأكثر هدوءا، بالإضافة إلى أن منظر الطعام بالصحن أحلى، والمطبخ الحلبي بالنسبة لهم ليس صحيّا كما أن منظر الطعام في الطبق ليس جميلا.
حلبي آخر يرد، “يا حبيبي، نحن كنا نستضيف مهرجانات للغاسترونومي في القرن الـ18 يزورها خبراء من أقاصي المعمورة”، متهكما على إفراط المطبخ الدمشقي في استخدام الكزبرة الخضراء.
لم يبق الدمشقيون والحلبيون في حلبة المعركة الافتراضية وحدهم، فقد دخل السوريون من مختلف المحافظات الأخرى مشيدين ببعض الأطباق الشهيرة في مدنهم، كالكبة الحمصية والسختورة الحموية والسمكة الحارة التي تشتهر بها اللاذقية والشعيبيات الأدلبية، وهي معركة تدل على غنى المطبخ السوري وتنوعه.
خضروات وقليل من اللحمة
يعتمد المطبخ الدمشقي على الخضراوات المزروعة في الغوطة والبقول القادمة من حوران، لتكوّن العشرات من الأطباق مثل “يخنة” خضراوات مع المرق والأرز، والفلافل التي تتكوّن من البقول، والفتات التي أتت من خبرة الدمشقيات في تدوير بعض المواد الغذائية المتوافرة كالخبز.
وتعتمد الدمشقيات في موائد الطعام أيضا على الألبان والأجبان الآتية من الغوطة والقلمون، إذ يحفل مطبخ دمشق بالأطعمة المعتمدة على اللبن مثل الشيشبرك والشاكرية والكوسا بلبن، وكذلك الحلويات المعتمدة على الحليب كالألماسية والهيلطية وكشك الفقراء.
وعرفت الدمشقيات بالتقليل من استخدام التوابل معتمدات على الكزبرة الخضراء والهال والقرفة وجوزة الطيب والبهار الحلو والزنجبيل، خيارا منهن للحفاظ على النكهة الحقيقية للأطعمة. ومن المأكولات الشهيرة في دمشق “طباخ روحو”، وهي أكلة تمتاز بنكهتها الصيفية لاحتوائها على مجموعة من الخضار التي تشبه بمكوناتها وطعمها “المحاشي”، لكنها تتميز بسهولة تحضيرها وإعدادها.
تقول الحاجة أم ياسر، تجتمع الأم والصبايا في المطبخ يتقاسمن العمل، فواحدة تقوم بتقطيع الكوسا والباذنجان إلى مكعبات صغيرة، وأخرى تقشر البصل وتدق الثوم، بينما تقوم الأم بتجهيز اللحمة، مضيفة هي طبخة تشبه المحاشي من حيث المكوّنات، نتركها على نار هادئة حتى تنضج حوالي نصف ساعة، وتقدم ساخنة وإلى جانبها طبق من البرغل المحمص مع الشعيرية أو الأرز، وطبق الفليفلة الخضراء والنعناع الأخضر، وطبق من المخلل.
وتضيف ضاحكة، يعدّها البعض وخاصة أهل حلب بأنها أكلة “الكسالى” الذين يجدون صعوبة في حفر الكوسا وحشوها، علما وأن أخصائيي التغذية يقولون، إن “طباخ روحو” من الأكلات الغنية بالفوائد لتنوع الخضار الموجودة فيها، فالكوسا تحتوي على البروتين والألياف والفيتامينات التي تفيد مرضى السكري، ولها دور في تسهيل عملية الهضم، وتساعد على خفض الكوليسترول في الدم، والباذنجان يساعد على خفض التوتر النفسي والعصبي، وله تأثير إيجابي على مرضى الكلى، وكذلك الطماطم تعطي الجلد نضارة، وتعمل على طرد السموم من الجسم.
ومن الأطباق الشهيرة التي عرفها المطبخ الدمشقي “الكباب الهندي” الذي يقول سكان العاصمة السورية في أمثالهم، “أكل الكباب وغاب الهندي”، كناية عن أكلهم لأصابع اللحم وتركهم لمزيج الخضار.
تقول أم ياسر، “نقوم بوضع ملعقة السمنة أو الزيت على النار، ثم نضيف البصل المقطع والفليفلة الخضراء، نتركها قليلا حتى تذبل البصلة، وبعدها نضع الطماطم المقشرة والمقطعة على شكل مكعبات، وفوقها أصابع اللحم المفرومة التي نضع معها البهارات أو المكسرات”.
كثيرة هي الأطباق الدمشقية مثل “أبوبسطة” وهي أكلة شتوية تتميز بغناها بالفيتامينات، وتعتمد على اليقطين أو القرع، و”منزّلة الأسود”، التي تعتمد على الباذنجان، وتقوم ربّة المنزل بتحضيرها في فصل الصيف لوجود الباذنجان الطازج صغير الحجم الذي لا يوجد في فصل الشتاء، وهي تعدّ من الأكلات السريعة، لأنها لا تحتاج إلى وقت طويل لنضجها.
وتفننت الدمشقيات في إعداد الفتات، وهي أكلة قوامها الخبز المقطع والمجفف أو المحمص، يسقى بالمرق الناتج عن سلق بعض أنواع اللحوم أو البقول مثل الحمص، ويضاف إليه السمن العربي أو زيت الزيتون، ويزين بالمكسرات مثل الصنوبر والجوز الشامي والفستق الحلبي، ومن أنواع الفتات، فتة المكدوس وفتة المقادم، وفتة بالسمنة العربية وفتة بالزيت. وتعترف الحلبيات للدمشقيات بشطارتهن في تسقية الطعام.
لحم ودسم
يعد الطعام بالنسبة للحلبيين لذة يتمتعون بها لدرجة أنهم يفضلونها على مختلف مباهج الحياة الأخرى المختلفة، ويظهر ذلك في أمثالهم وتقاليدهم الشعبية فهم يقولون، “ما بدي قندرة تزقزق بدي طنجرة تبقبق”.
يقول الأديب الحلبي محمد حسن عبدالمحسن، “لأهل حلب علاقة محبة وعشق مع الطعام والمأكولات التي يتميزون بها من غيرهم من أبناء باقي المحافظات في إعدادها وطهوها والتلذذ بتناولها، ومن عاداتهم في الأكل أيضا أنهم يتحلون بعد تناول أكلة اليبرق المحشي بأكلة الأرز بالحليب وهي أكلة شهيرة في “حلب”، كما يطيب لهم تدخين النارجيلة بعد الأكل الثقيل”.
ويحرص الحلبيون على تنوع أطباقهم ويوصفون بالذوّاقة فهم لا يأكلون بقصد الشبع بل بقصد المتعة، ولذلك ينوعون الأطباق ويشكّلونها من كل صنف ويزينونها كمن يصمم لوحة فنية فتصل إليها العيون قبل الأيادي.
يقول الشيف محمود قزموز المختص في الكبة الحلبية لوكالة الأنباء السورية، “أهم ما يميز المطبخ الحلبي اعتماده بشكل أساسي على اللحم خاصة الضأن والتوابل الحلبية التي تتألف من الفلفل الأبيض والزنجبيل وجوزة الطيب والفلفل الأسود والبهار الحلبي المشكّل وزيت الزيتون والبرغل والفريكة”.
وبيّن أن المطبخ الحلبي يحتوي على 36 نوعا من الكبة ومأكولات أخرى مثل، “فتة المقادم واللسانات والقبوات أو ما يعرف بالسندوانات والكبسة وغيرها من الأطعمة”.
ويعدّد الشيف محمود أنواع الكباب الحلبية ومن أشهرها الكبة القصابية مدعبلة والكبة السفرجلية والكبة المقلية والكبة بالصينية والمعجوقة المحشوة بالفطر والجبن والمكسرات والفليفلة الحمراء والكبة بالسياخ والكبة بلبنية، وتعدّ من أشهى وأشهر أنواع الكباب، والكبة السماقية التي تطهى مع نبات السماق الحامض والكباب الديري مع الجبنة والكباب الأورفلي، الذي يكون حار المذاق والكباب الخشاش الشهير في حلب مع البقدونس والثوم.
ويذكر الشيف عمر حميدي أنواع الكباب الحلبي، ومنه الكباب الأزمرلي والكباب العنتابي والمعجوقة واللحم بعجين وعش البلبل بالسمن العربي والكبة المشوية بالشحمة. ويتحدث الشيف حمزة جابر عن الكبة النية الشهيرة أيضا في حلب كنوع من أنواع المقبلات التي تمزج مع هبرة الخاروف، وقليل من الدهنة وتدعك باليد مع البرغل ويضاف إليها الكمون والبصل والبقدونس.
وهناك أيضا الكرزية أو لحمة بكرز الشهيرة جدا في مدينة حلب تطهى مع ثمار كرز، وتمتاز بمذاقها الحامض مع لحم الضأن المقلي بالدهن. وتطول قائمة الأطباق الحلبية الشهيرة بمذاقها الشهي كالمحاشي التي تتعدد أنواعها، مثل محشي الكوسا أو الباذنجان أو العجور المحشو باللحم المفروم والأرز أو البرغل والبهارات.
وتمتاز مأكولات مدينة حلب بنكهة زكية لها سر خاص من خلال إضافة التوابل إلى الأطباق، كالفلفل الأسود والبهار الأسود والبهار الأبيض والكزبرة اليابسة وغيرها. ورغم هذه القائمة الطويلة من أنواع الكباب والكبة يقول أحد انصار المطبخ الدمشقي، “يفخّمون الكبة ويعددون أنواعها، هي كبة طلعت، أو نزلت”، متسائلا، “ألا توجد كبة مشوية في دمشق”.
ويضيف آخر، “لو كان أكلكم طيبا لصارت حلب عاصمة”، قاصدا تفوق مطبخ دمشق الذي ينتمي إليه على المطبخ الحلبي. حرب المطابخ ليست إلا معركة رفاهية تزينها الفواكه والغلال، فالمطبخ السوري غنيّ في شامه وحلبه واكتسب تنوعه من تعاقب الحضارات عليه عبر تاريخ، ليكون في السنوات الأخيرة سفيرا للسوريين في أنحاء العالم يجتمع حوله كل الفرقاء توحدهم لذته ونكهاته المتنوعة، ولم ينسب يوما لمدينة بعينها فمع انتشار السوريين في كل أنحاء العالم اثر الحرب السورية-السورية، برز العديد من الطهاة السوريين نساء ورجالا،
وحققوا بمهاراتهم شهرة وسمعة واسعة للمطبخ السوري سواء في الدول العربية أو الأوروبية، وبالإضافة إلى المطاعم التي اشتهرت في العواصم اشتهرت سوريات في مختلف دول العالم من مها المعرباني التي أثبتت في كندا أن المطبخ السوري يصنع البهجة لكل من يتذوقه، إلى ملكة جزماتي التي سحرت كبار المسؤولين في ألمانيا بنكهات طعامها، وغيرهن كثيرات نشرن نكهات وتراث المطبخ السوري.