حرب غزة… مكاسب بالجملة لروسيا وأزمة كبرى للغرب

الحرب الإسرائيلية - الفلسطينية تعيد إلى السطح الخلافات بين الدول الغربية.
السبت 2023/12/09
سعيد بالهدية

موسكو التي باتت تدرك أهمية الفرصة السانحة بانشغال الولايات المتحدة الأميركية وقوى الغرب بحرب غزة عن مواصلة الدعم المقدّم إلى أوكرانيا من أكثر المستفيدين من الأحداث الجارية الآن في فلسطين.

موسكو - يتفق أغلب المراقبين على أن روسيا واحدة من أكثر الدول المستفيدة من الحرب الدائرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في قطاع غزة من وجوه عديدة، أبرزها تشتيت التركيز الغربي على دعم أوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي بعد أن تحول الجزء الأكبر من المساعدات والموارد الغربية إلى دعم إسرائيل في حربها بقطاع غزة، وانتشار الاستياء بين المزيد من الشعوب من السياسات الغربية تجاه حرب غزة والتغاضي عن مقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين في هذه الحرب.

ويشير نيكيتا سماجين، خبير الشؤون الإيرانية في المجلس الروسي للشؤون الخارجية، إلى بعد آخر يتمثل في أن هذه الحرب أقنعت روسيا بصواب سياستها الخارجية خلال السنوات الأخيرة.

وفي تحليل نشرته مؤسسة كارنيغي الأميركية للسلام الدولي، قال سماجين خبير الشؤون الدولية والكاتب الذي يركز على الشأن الإيراني والسياسة الروسية في الشرق الأوسط إن الجولة الحالية من الصراع في الشرق الأوسط هي الأزمة المثالية بالنسبة لروسيا التي تجني من ورائها مجموعة كبيرة من المكاسب السياسية.

نيكيتا سماجين: الصراع في الشرق الأوسط أزمة مثالية بالنسبة لروسيا
نيكيتا سماجين: الصراع في الشرق الأوسط أزمة مثالية بالنسبة لروسيا

ولم تعزز المواجهة بين إسرائيل والفلسطينيين فقط آمال الكرملين في تغير المزاج العام الدولي تجاه الحرب في أوكرانيا، لكنها تعزز أيضا اقتناعه بأن نظام العلاقات الدولية الذي يمثل الغرب مركزه ينهار.

وكان الغزو الروسي لأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير من العام الماضي قد أنهى أغلب الخلافات بين الدول الغربية بشأن التعامل مع روسيا واتحدت أوروبا والولايات المتحدة ضد روسيا. لكن الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية أعادت إلى السطح الخلافات بين الدول الغربية، حيث تصر الولايات المتحدة على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في حين يشهد الاتحاد الأوروبي خلافات واضحة بين دوله بشأن هذه الحرب، حيث تؤيد ألمانيا والنمسا والتشيك إسرائيل بشكل كامل، في حين تعارضها إسبانيا والبرتغال، وتتبنى فرنسا موقفا وسطا بين حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وحق المدنيين الفلسطينيين في الحماية من الاعتداءات الإسرائيلية وفي الحصول على المساعدات الإنسانية الضرورية التي تمنع إسرائيل وصولها إليهم.

وفي هذه الأجواء تراجع الاهتمام الغربي بالحرب في أوكرانيا. وتقول الولايات المتحدة إنها ستقدم المساعدات لكل من إسرائيل وأوكرانيا، لكنها في الواقع تواجه صعوبة بالغة في الانخراط في الحربين بشكل كامل في وقت واحد. وتأمل موسكو في أن يتعب الغرب في وقت لاحق من تقديم الدعم المفتوح لأوكرانيا باعتباره لم يكن مبررا أبدا.

وفي الوقت نفسه فإن الموقف الأميركي المؤيد لإسرائيل ينسف الكثير من الأسباب التي يروجها الغرب لدعم أوكرانيا من وجهة الكثير من شعوب الجنوب. فالحجة الأخلاقية الغربية ضد الغزو الروسي أصبحت كلمات فارغة من المعنى على الأقل بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط التي ترى دعما أميركيا مطلقا للاحتلال والغزو الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، في حين تجرم واشنطن الغزو الروسي لأوكرانيا.

الصراع في غزة عزز أمل الكرملين في أن تتلاشى الصعوبات التي خلقتها الحرب في أوكرانيا بالنسبة لموسكو

وقارن ساسة روس بين ما يقولون إنه التفويض المطلق الذي منحته واشنطن لإسرائيل لقصف قطاع غزة وبين رد واشنطن العقابي على الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا وتقول إنها لا تستهدف المدنيين عمدا رغم مقتل الآلاف من المدنيين.

وقال السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة إن روسيا ليست في موقع يسمح لها بتقديم المواعظ للآخرين نظرا لما تفعله بنفسها في أوكرانيا.

لكن السيناتور أليكسي بوشكوف قال إن الغرب “وقع في فخ من صنعه حين كشف عن المعايير المزدوجة التي يتعامل بها مع الدول المختلفة بناء على تفضيلات سياسية مبنية على مصالح ذاتية”.

وكتب بوشكوف على تطبيق تلغرام “دعم الولايات المتحدة والغرب المطلق لتصرفات إسرائيل وجه ضربة قوية للسياسة الخارجية الغربية في نظر العالم العربي وجنوب العالم بأكمله”.

وذكر ماركوف مستشار الكرملين أن “روسيا تعتبر أزمة غزة فرصة لتعزز نفوذها في الشرق الأوسط”.

الجولة الحالية من الصراع في الشرق الأوسط هي الأزمة المثالية بالنسبة لروسيا التي تجني من ورائها مجموعة كبيرة من المكاسب السياسية

ووجد الكرملين الفرصة سانحة للقيام بما قام به مرات كثيرة، وهو توجيه اللوم للولايات المتحدة. فمنذ وقوع هجوم حماس على إسرائيل، كانت الرسالة المركزية لبوتين هي أن “هذا مثال على فشل سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”.

ويقول مراقبون إن تصوير الولايات المتحدة باعتبارها المجرم المركزي في الشرق الأوسط هو طريقة الكرملين في تعزيز موقف روسيا في المنطقة على حساب واشنطن.

وخلقت صور الدمار ومقتل الآلاف من الأطفال في غزة وغضب منظمات الإغاثة الإنسانية انطباعا عميقا معاديا للغرب لدى الشعوب في الدول النامية.

ويمكن للشعوب أن تتجادل بلا نهاية عن أسباب الحرب في أوكرانيا أو العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، لكن بالنسبة للكثيرين فإن الخلاصة واضحة: الولايات المتحدة التي نددت بروسيا عندما قتلت المدنيين الأبرياء في أوكرانيا، تلتزم الصمت الآن عندما تقوم حليفتها إسرائيل بنفس الشيء ضد المدنيين الأبرياء في غزة.

ويقول سماجين إن الكرملين منذ وقت طويل يؤمن بفكرة أن العالم لا تحكمه الأخلاق ولا الأيديولوجيات وإنما تحكمه فقط مصالح الدول. وجاءت الحرب الحالية في الشرق الأوسط لكي تعزز هذا الإيمان على أساس أنها دمرت الإستراتيجية الغربية ضد روسيا لأنها كانت تستند إلى فكرة ضرورة رفض العالم لغزو دولة لأخرى واستخدام دولة قوية لآلتها العسكرية ضد المدنيين في دولة مجاورة وغير ذلك.

الموقف الأميركي المؤيد لإسرائيل ينسف الكثير من الأسباب التي يروجها الغرب لدعم أوكرانيا من وجهة الكثير من شعوب الجنوب

لكن الغرب تنكر لكل هذه القيم والمبادئ التي رفعها في مواجهة موسكو عندما تعلق الأمر بإسرائيل.

وفي الوقت نفسه فإن روسيا لا تحتاج إلى تحريك أي ساكن للاستفادة من حرب غزة. فالعملية البرية الإسرئيلية تبدو بلا نهاية قريبة. وعندما تنتهي ستظل القضايا الشائكة كما هي.

ورغم ذلك لا يمكن القول إن الحرب في غزة لا تمثل أي خطورة بالنسبة لروسيا. فوجود حلفاء إيران في لبنان واليمن على خط المواجهة مع إسرائيل، يمكن أن يؤدي إلى اتساع نطاق الصراع وانضمام إيران إليه وهو ما سيمثل تحديا لروسيا نظرا لعلاقاتها الوثيقة مع طهران.

كما أن الحرب في غزة يمكن أن تثير بعض الاضطرابات المحلية في روسيا بسبب تأييد شعوب الجمهوريات المسلمة في روسيا للفلسطينيين، وظهور دعوات معادية للسامية بينها وهو ما تتحسب له الحكومة في موسكو وتخشى من تدهور الأمور أكثر من ذلك إذا استمر نزيف الخسائر البشرية الهائلة بين المدنيين الفلسطينيين لفترة طويلة.

وفي ختام التحليل يقول نيكيتا سماجين إن الصراع في غزة عزز أمل الكرملين في أن تتلاشى الصعوبات التي خلقتها الحرب في أوكرانيا بالنسبة لموسكو.

وهذا النهج اختبرته روسيا عدة مرات، وهو أنه حتى إذا لم يكن غزو أوكرانيا يمضي كما هو مخطط له، فإن كل مشكلة تجد لنفسها حلا حتى لو لم يكن بتحرك مباشر من جانب روسيا، تماما كما حدث في حرب غزة التي جاءت كهدية من السماء للروس.

6