حتى لا تبقى كلمة التسامح سائبة.. لا مواطنة دون حرية المعتقد

الخميس 2017/08/31
دولة دينها القانون

متسامحون في ما بيننا، لا إكراه في الدين بين ظهرانينا، لا ردّة ولا حسبة لدينا ولا هم يجلدون. يشيّد البوذيون معابدهم كما شاؤوا في بلادنا، وكذلك يبني إخوتنا المسيحيون وأبناء عمومتنا اليهود المعابد والكنائس والأديرة على راحتهم.. يمكن أن تغيّر دينك عندنا كما تغيّر قميصك. أنت حرّ في بلاد الشريعة. القبطي مواطن لا ذمّي ومن ألحد فهو منّا. للشيعي قيمته وسط السنة وللسني بين الشيعة مكانة أيضا، والأحمدي والبهائي وهلم جرا، فكلّ الأديان سواسية كأسنان المشط في ربوع وطننا العربي الإسلامي الكبير. نعوذ بالله من شر الغرب الذي يحسدنا على هذه النعمة، نعمة العدل والسلم والإسلام.

من يعتمد على ما يقول المتأسلمون وما يكتبون يمكن أن تنطلي عليه هذه الكذبة الكبرى وربما تطربه هذه الأغنية الشجية.

ملتقيات تعقد وأموال تصرف تحت يافطة تقديم الإسلام الصحيح المتسامح للغرب، مجرد ذر رماد على العيون. هل الواقع على الأرض الإسلامية كفيل بتسويق إسلام مثالي متسامح يتعايش دون استعلائية مع الآخر المختلف؟

هل يمكن الوصول إلى إرساء مواطنة حقيقية في ظلّ أحكام شريعة أساسها التمييز بين المسلم وغير المسلم، بل استئصال غير المؤمنين بالشريعة؟

مَن لا يتحاشى محك الواقع كما يفعل هواة الكلام الفضفاض، يصل بسهولة إلى تفكيك ذلك الخطاب المثالي، ويقف على حقيقة الخراب الذي تعيشه الحرية الفردية وحقوق الإنسان، في البلدان التي يتمّ فيها تغليب الشرع على العقل.

وحدها الأسئلة المستمدّة من الواقع تهدم بناءات الخطاب الإسلامي الافتراضية، وتظهرها عارية لا يسترها سوى تماسكها اللفظي وانتفاخها البلاغي، إذ أن التفاتة سريعة إلى الوراء غير ملوثة بالأيديولوجية الإسلاموية ومتحرّرة من ثقافة القطيع، تظهر تعاسة ذلك “الماضي السعيد المتوهّم” الذي تُعطل من أجل إعادة إحيائه مسيرة مجتمعات برمّتها وترتكب من أجله كل المنكرات.

لنستنطق الواقع كي لا تنطلي علينا مزاعم المتأسلمين، وما تجترّه الثقافة العربية الغالبة من كلام جاهز لا مقابل له على الأرض.

هل من العدل أن تحاكم شابة جزائرية بالغة لمجرد أنها اختارت المسيحية دينا في بلد يضمن دستوره حرية الاعتقاد؟ حتى وإن سلمنا جدلا بوجود تبشير واسع النطاق- كما تقول السلطات الجزائرية- فأين المشكلة؟ هل الدولة مسؤولة عن وعي الناس ودواخلهم؟ ولماذا نحرم على غيرنا ما نجيزه لأنفسنا؟ وما الفرق بين الدعوة والتبشير؟ أليس من الغريب أن تنص أحكام المادة 132 من قانون الأحوال الشخصية السوري على إلحاق الولد بدين أمه المسلمة إن كان والده غير مسلم باعتبارها في نظر المشرع السوري أشرف الأبوين دينا؟

مَن لا يتحاشى محك الواقع كما يفعل هواة الكلام الفضفاض، يصل بسهولة إلى تفكيك ذلك الخطاب المثالي، ويقف على حقيقة الخراب الذي تعيشه الحرية الفردية وحقوق الإنسان، في البلدان التي يتمّ فيها تغليب الشرع على العقل

ألا يشترط دستور إيران في الفقرة الخامسة من المادة الخامسة عشرة بعد المئة أنّ الاعتقاد بمذهب التشيع شرط أساس لتولي المناصب؟

كيف يمكن أن نصل إلى هضم الحرية الدينية واحترام عقائد الآخرين واختلافهم إذا لم نفصل ديننا الخاص عن دنيانا العامة؟ هل يتوافق اعتماد الشريعة أساسا لتشريعاتنا مع مبدأ الحرية الدينية؟

على الرغم من أن المواثيق الدولية تضمن حرية الاعتقاد وحق كل إنسان في تغيير معتقده كما يشاء، يعاني غير المسلمين في أغلب بلدان الإسلام من أحكام شريعة لا يؤمنون بها أو لم يعودوا كذلك.

إذا كان المرء سودانيا مثلا ويدين بدين سيدنا عيسى يجلد عشرين مرة عوض الأربعين- المسلطة على أخيه المسلم- إذا ما شرب قدحا، أما في مصر التي يؤكد البند الثاني من دستورها منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، ورغم أنف الأقباط، أن الشريعة هي مصدر التشريع الأساسي، فيمنع بيع النبيذ مثلا خلال شهر رمضان حتى للمصريين من ذوي الديانات الأخرى أو البدون.

ألم يعلن محمد مهدي عاكف، المرشد الروحي للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، أنّ الماليزي أو الأندونيسي المسلم أحب وأقرب إلى قلبه من القبطي المصري؟ ولا يزال ينظر إلى الأقباط على أنهم أهل ذمة إذ لم يصبح عيد فصحهم عيدا وطنيا رسميا في أرض أجدادهم إلا عام 2002. وبدأوا يهمون بترك الديار بعدما ازداد تعرضهم للاعتداءات الجسدية والمعنوية. اغتصبت واختطفت وأرغمت على اعتناق الإسلام والزواج فتيات قبطيات كثيرات. أحرقت معابد وأتلفت محاصيل لدفعهم إلى المغادرة.

أما في فلسطين المنكوبة فقد فرضت حركة حماس خلال الانتفاضة الثانية الجزية على المسيحيين الفلسطينيين لأنّهم، عملا بمبدأ الذمة، لا يشاركون في الجهاد فهاجر بعضهم إلى الخارج، وهو ما فعله مسيحيو العراق أيضا جرّاء التفرقة الدينية و القتل الذي باتوا يعانون منه قبل وبعد ظهور تنظيم داعش.

لا أريد استرسالا نظريا في موضوع الحرية الدينية في العالمين العربي والإسلامي، فالواقع يبيّن لنا كل يوم أن السلطات هي التي تحارب التعدد الديني وتطيل من عمر الأحادية، بتمويل وتشجيع لفكر لاهوتي إسلامي متحجر، عن طريق مدارسها وإعلامها وخطب أئمتها الغلاة وكتابات مثقفيها الأصوليين.

لقد تسلح الجهل بالسلطة كما كان يقول المفكر فولتير. لا تدخل ديار العروبة والإسلام إلى عصر الحرية والمساواة والتأقلم مع ما يجري فيه، ما لم يتم فيها خصخصة المعتقد الديني، وجعل كل الديانات والاعتقادات متساوية. كل ما نفعله يذهب هباء منثورا في ظل القوانين المستمدة من الشريعة. لا أمر مجد قبل التخلص من ربقة الشريعة، أو الإسراع في “الانفصال عن الذي لم يعد ممكنا” بتعبير رولان بارت، إذ لا مواطنة سياسية دون حرية المعتقد.

أما آن لنا أن نعرف أنّ الديمقراطية وما يسمى شريعة خطان مستقيمان لا يلتقيان أبدا.

تهدف الأولى إلى تنظيم الاختلاف عن طريق الحوار والتراضي والتنازل المتبادل، بينما تبتغي الثانية إلغاء الاختلاف منتهجة طريق الترغيب والترهيب من قمع ودعوة وهداية وجهاد. تستبعد الشريعة من حياة المؤمن كل مخاطرة، ومن البديهي أنّ غياب المخاطرة ينسف مفهوم الحرية جملة وتفصيلا.

سؤال أخير كثيرا ما يطمسه الخطاب الثقافي العربي: لماذا بقي غلاة الأديان الأخرى- اليهود والمسيحيين والهندوس والبوذيين وغيرهم- مجرد طوائف معزولة ومقطوعة عن الجماهير، بينما لا تجد الأصولية الإسلامية مقاومة حاسمة في محيطها؟

13