حالة الحوار في مصر.. التسرع مرفوض والتأخير غير مفهوم

يوفر الحوار الوطني فرصة للحكومة المصرية قد تخفف عنها الضغوط التي لم تعد تقتصر على المعارضة فقط بل تأتي من النشطاء على مواقع التواصل، لكن هذا الحوار ما يزال يدور حول الشكليات وتحكمه لعبة تسجيل النقاط ما يحول دون الوصول إلى نتائج إيجابية تشجع مختلف المشاركين على التعمق أكثر.
استأنف مجلس أمناء الحوار الوطني في مصر اجتماعه السادس السبت في أجواء سياسية بدت عليها علامات صدام جديد، حيث ارتابت قوى معارضة في عملية استكمال تشكيل اللجان الثلاث الرئيسية، السياسية والاقتصادية والمجتمعية، بينما اعتبرتها الجهة التنسيقية المسؤولة عن إدارة الحوار خطوة ضرورية تمهد الطريق للانخراط في تفاصيله والتوصل إلى مخرجات تقود إلى تحديد أجندة واضحة للعمل الوطني تتناسب مع متطلبات الجمهورية الجديدة.
وينقسم المعنيون بالحوار إلى فريقين الآن، أحدهما يحذر من خطورة التسرع في التوصل إلى نتائج يمكن أن يتسبب التعجيل بها في تعثر عملية تطبيقها.
وقد مضى نحو أربعة أشهر على إطلاق الرئيس عبدالفتاح السيسي دعوته للحوار وهي مدة ليست طويلة، خاصة أن الشروع في ترتيب أوراق الحوار بدأت منذ نحو شهرين فقط، ومن الواجب أن يكون المناخ العام مهيأ كي يضمن مجلس الأمناء تجاوز العقبات التي تواجه المناقشات قبل الدخول عمليا في جوهر الحوار.
قد يكون تأخير الدخول في لب الحوار الوطني غير مفهوم لدى بعض القوى في الحركة المدنية، غير أن التدقيق في القضايا المطروحة عليه يوجد تفسيرات ومبررات مقبولة
ويخشى الفريق الثاني من البطء وما يمكن أن يؤدي إليه من تأخير في عدم الحصول على نتائج إيجابية تفقد الحوار الوطني قيمته المعنوية وقدرته على تحريك المياه الراكدة في عدد من المجالات الحيوية، وإصابة من يعولون عليه بالإحباط، فالحوار أصبح حالة تحمل الكثير من المكونات الإيجابية، بدأت تنعكس ملامحها في زيادة مساحة الليونة في الخطاب الرسمي مع القوى المعارضة.
ونشأ ما يشبه الحوار غير المباشر بين الفريقين، حيث يحاول أنصار الفريق الأول بث كل ما من شأنه أن يبعث على الطمأنينة وتأكيد أن التأخير لأسباب إجرائية وليست سياسية، ولا توجد نية لتخريب الحوار أو خروجه عن مساره الذي رسمه الرئيس السيسي، بينما تملكت أنصار الفريق الثاني مخاوف كبيرة من أن يفضي التأخير أكثر من اللازم إلى فتور حماس قوى معارضة راهنت على أهمية الحوار في هذه المرحلة.
ولوحت الحركة المدنية الديمقراطية، وتضم عددا من الأحزاب المعارضة، بالانسحاب أخيرا من الحوار للضغط على الحكومة، حيث بدأ التأخير يتحول في نظر التيار المعارض للحوار داخل صفوفها إلى عملية “مماطلة” واستنزاف لمزيد من الوقت إلى حين تتجاوز الحكومة المصرية تحدياتها الاقتصادية.
وقد يكون تأخير الدخول في لب الحوار الوطني غير مفهوم لدى بعض القوى في الحركة المدنية، غير أن التدقيق في القضايا المطروحة عليه يوجد تفسيرات ومبررات مقبولة، ومن المهم معالجة أسباب التأخير والبطء من خلال الاختزال والدمج وتحديد الأولويات، فمشاكل مصر كبيرة وعصية على حلها من خلال طاولة متشابكة الفروع ومتعددة الوجوه، وهو ما يثير الغبار حول الحوار.
خلق الحوار السياسي حول الحوار الوطني حالة جديدة على الشارع المصري، فالاختلاف بشأن أجندته وأولوياته من العناصر الإيجابية التي كانت غائبة عن الساحة المصرية، وهي من مكاسب الحوار المهمة الذي جرى تدشينه وقاد إلى حراك بين قوى معارضة بقيت فترة طويلة في ظل السياسة وبين قوى مؤيدة للحكومة اعتقدت أنها أحكمت سيطرتها على المشهد وليست بحاجة إلى معارضة تناطحها.
وأعادت حالة الحوار بين الجانبين الأمل في إمكانية حدوث إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية في مصر بالتوازي، فقد باتت القضايا التي تشغل بال المواطنين تطرح للنقاش وأخذت تتسرب مفردات منها إلى بعض وسائل الإعلام الرسمية حوت نقاشات حول ملفات ظلت غائبة وغير مطروقة فترة طويلة.
وانتقلت حالة الحوار من الغرف المغلقة داخل مجلس الأمناء إلى الشارع والأحزاب والإعلام، وظهرت معالم اهتمام بالحوار كنافذة فُتحت فجأة وبعثت طاقة أمل تحرض على التفاعل معها بالتأييد أو الرفض، وهي حالة تعيد ضخ الدماء في الفضاء العام.
ولا أحد يعلم المدى الذي يمكن أن يصل إليه الحوار الوطني بعد الانتهاء من تشكيل لجانه واختيار الشخصيات والمحاور التي يدور حولها، لكن وجود جهة معنية بالحوار الوطني مكسب في حد ذاته يتطلب الاستفادة منه لأنه اعتراف مباشر من قبل الحكومة بأن هناك تقصيرا ساد الفترة الماضية وعلى المشاركين في الحوار تصحيحه.
وتستفيد الحكومة من التصحيح في معالجة الأخطاء التي وقعت فيها بعد انفرادها بالقرار وتضييق الخناق على المعارضة، وتستفيد الثانية من أنها رقم يصعب الاستغناء عنه، وحتى لو جاء الاعتراف متأخرا فهو خير من أن لا يأتي أبدا، ومن الواجب توظيفه في توسيع رقعة المشاركة والتغيير والإصلاح بما يحقق أهداف الجميع.
ويمثل الحوار اختبارا لقوى المعارضة قبل الحكومة، فالمشاركة بفاعلية تؤكد أنها لا تزال مؤثرة وتملك من الأدوات والرؤى ما يساعدها على وضع الكرة في مرمى حكومة تجاهلتها طويلا، بينما العزوف والانسحاب والانزواء آفة كفيلة بتثبيت كل التهم السلبية التي ألصقت بالمعارضة الفترة الماضية، ما جعل تيارا عقلانيا فيها يصمم على مواصلة المشاركة في الحوار وعدم التجاوب مع نداءات المقاطعة.
الحوار أعاد الأمل في إمكانية حدوث إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية في مصر بالتوازي، فقد باتت القضايا التي تشغل بال المواطنين تطرح للنقاش
وأثبتت تجارب المقاطعة عدم جدواها في كثير من المحكات السياسية داخل مصر وخارجها، وهي أداة سهلة وتكلفتها ربما تكون مرتفعة في المستقبل، ولعل قبول الحكومة بالحوار رسالة اعتراف ضمنية بأهمية القوى المختلفة وضرورة مشاركتها كرسالة تعيد الاعتبار لها بأنها ضمن المعادلة الرئيسية في الدولة.
وإذا كانت بعض القوى تخشى من أن تصبح مثل الديكور السياسي أو أداة لتحسين صورة النظام الحاكم برمته، فعليها أن تثبت العكس بالمشاركة والحرص على التفاعل في جلسات الحوار الوطني، وهي الحلقة التي تمثل اختبارا لجدية القائمين والمتحفظين والرافضين للآلية التي يعمل بها الحوار، خاصة أن مجلس الأمناء يضم طيفا واسعا من القوى التي لديها مشتركات وطنية كفيلة بأن تحول حالة الحوار من عملية سياسية مستهلكة إلى أداة جادة تحدث نقلة كبيرة في المشهد المصري.
من الطبيعي أن تكون هناك قوى داخل النظام غير مرتاحة للحوار أصلا وتسعى لتخريبه وتعطيله بإدخاله في طرقات غامضة، ومن الطبيعي أيضا أن تكون هناك قوى وازنة على الطرف المقابل ترى أن الحوار هو الوسيلة الأساسية لتعبر مصر تحدياتها في الداخل والخارج.
وتشير جلسات الحوار داخل مجلس الأمناء إلى عدم وجود مواقف مسبقة لإغراقه في التفاصيل، وإن وجدت رغبة لدى البعض لذلك فعلى الرافضين مقاومتها وتسجيل المواقف التي تفضحهم، بمعنى أن الفرصة متاحة ليخرج الحوار بنتائج تساعد على تجاوز البرودة التي يعيشها الفضاء العام والوصول إلى درجة مناسبة من التدفئة تفيد النظام ومعارضيه في آن واحد، لأن تحول البرودة إلى جليد لن يكون في صالح القوى الحريصة على نجاح الحوار الوطني في ظل وجود متربصين ينتظرون نبأ فشله.