حادي العيس يغنّي والإبل تستجيب

همهمات حادي الإبل ساعدت الخليل بن أحمد الفراهيدي على اكتشاف مفاتيح العروض وضبط الأوزان الشعرية.
الأحد 2024/06/30
سفينة الصبر

تعايش العرب مع الإبل منذ قديم الزمان، فكانت بينها وبين حاديها ألفة ولغة تفاهم وتواصل يخاطبها فتستجيب له وتحث السير أو تتجه لشرب الماء أو الاستراحة قليلا من عناء السفر وهي التي تجوب الصحراء دون كلل أو عناء.

الرياض - يتوارث أبناء الجزيرة العربية “فن الحداء” للتواصل مع قطعان إبلهم من خلال بعض الأصوات والتعبيرات التي اعتادت الإبل على سماعها والاستجابة لها. وبحسب المصادر التاريخية، فإن مضر بن نزار بن معد، هو أول من (حدا) للإبل بعد أن سقط من بعيره وانكسرت يده وصاح بصوته (وايداه! وايداه!)؛ وكان حسن الصوت؛ فأصغت إليه الإبل وجدّت في السّير؛ ومن هنا بزغت فكرة استعمال الحداء لنداء الإبل، ويذهب البعض إلى أن هذه الهمهمات ساعدت الخليل بن أحمد الفراهيدي على اكتشاف مفاتيح العروض والأوزان الشعرية .

ويقال إن بداية  الحداء كان عن طريق الدوّاة، وهو نداء الإبل بصوت رفيع، وجاء في بعض معاجم اللغة أن راعي الإبل إذا أراد أن يستحث إبله لتجيء إليه مسرعة؛ زجل بصوته وغنّى لها بكلمات مثل.. هَيد هيد، أو: هي دو هي دو. أو: دوه دوه. أو: ده ده بضم الدال. أو: داه داه، وهذا ما زال مستعملاً إلى اليوم جنباً إلى جنب مع الرجز، ولم يلغ أحدهما الآخر، وهو يختلف من بيئة إلى أخرى .

ثم تطور الدُّوّاة من مجرد همس أو صوت أو مناداة على الإبل إلى غناء شعري له طرقه وأساليبه ومفرداته الخاصة، ودخلت فيه مع مرور الزمن المعاني والكلمات الشعرية المغناة، والأشطر الموزونة، فجمع عذوبة الصوت وسحر القافية المستمد من بيئة البدو وثقافتهم الأصيلة. ومما يُذكر في قوة تأثير الحداء في الإبل أن "أبا جعفر المنصور سأل حدّاءً، فقال له: ما بلغ من حُسن حدائك؟ قال: تُعطّش الإبل ثلاثاً فتُدنى من الماء، ثم أحدو فتتبع كلها صوتي، ولا تقرب الماء".

وقد أصّلت المعاجم العربية وأمهات كتب التراث العربي لـ”حداء الإبل”، كما تحتوي على كمٍّ هائلٍ من الحكايات والقصص والأراجيز المرتبطة به، وحفظت كتب التراث الشعبي مجموعة كبيرة من المرويات الشفاهية لأحديات العرب المتأخرين على ظهور إبلهم وصهوات جيادهم.

◙ فن "حداء الإبل" سجل ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي السعودي بمنظّمة اليونسكو كأبرز الموروثات التي ما زالت حيّة في التراث الشعبي

والحداء أقرب ما يكون إلى النظم البسيط المكون من بيتين بقافيتين، وبصوت يردده اثنان، وأحياناً عندما تكون الدّلو التي يستخرج بها الماء من الآبار كبيرة جداً، يردده أربعة بصوت جهوري، يصل أحيانا في هدأة الليل أو الفجر إلى أماكن بعيدة، ولا يتقيد بلحن واحد، بل تتعدد ألحانه وطريقة أدائه من بيئة إلى أخرى، وتكون ألفاظه شجيّة، تخلب ألباب الإبل، ومعانيه ذات أبعاد تتعلق بشؤون حياة الرُّعاة اليومية، وتشمل كلمات الحداء الشعرية ببساطتها وخفتها وعدد كلماتها القليلة، التنظيم، والقوانين، وطرق السقاية، وأهداف الرحيل، وحياة البادية عامة، وما يجول في نفس الرُّعاة من همّ وشجن.

وللحداء مناسبات مختلفة فمنها، “حداء الرحيل”، و”حداء السفر”، و”حداء سقي الإبل” الذي يسمى “العوبال”، وهناك “حداء الأوبة” المسمى عند العامة “الهوبال” وهو خاص بجمع الإبل وسوقها إلى مراحها أو مكان رعيها، وهناك “حداء السواني” ويغنى للإبل التي تجذب الماء من البئر لتنشط في سيرها.

ولم يستطع الحداء الاستمرار في لغته الفصيحة وفق ما ورد في كتاب “الحداء” للباحث محمد العجيري، خصوصاً بعد أن ترك اللغة من تمسكوا بلهجاتهم الجديدة المولّدة، فتحول الحداء من اللغة الفصيحة إلى اللغات الدارجة لأهل الأمصار. ويوضح المؤلف أن هذا الإرث لم يتم تأليفه من قبل مجموعة معينة من الأفراد، بل انتقل من جيل إلى جيل، وخضع للحذف والإضافة حسب الاحتياجات البيئية للأفراد المستخدمين له، حتى وصل إلينا على الشكل الذي هو عليه، ولن يتوقف عن التعديل حتى يصل إلى مراحل التسجيل.

ومن أمثلة أحديات بدو الجزيرة العربية التي قالوها بلهجتهم العامية ما يسمى بـ"الهوبال" وهو ينقسم إلى حداء ورجز، فأما الحداء فهو الذي يغنّى أثناء انتظار الدّلو وهو يصدر من قاع البئر إلى حين الإمساك بها. وأما الرجز فهو خاص بالإمساك بالدّلو وتفريغ الماء في الحوض. وقد سجل فن "حداء الإبل" ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي السعودي في منظّمة اليونسكو، كأبرز الموروثات التي ما زالت حيّة في التراث الشعبي.

ولأجل هذا الارتباط الوثيق بين الثقافة المحلية والإبل؛ بادرت وزارة الثقافة بتسمية هذا العام 2024 بـ”عام الإبل”؛ باعتبارها قيمة ثقافية، وركيزة من ركائز الحفاظ على الهوية الوطنية الأصيلة، والتراث العربي الأصيل.

تراث حي

18