جيل أطفال الحرب السورية يواجه خطر التحوّل إلى جيل أمّي

قانون التعليم الأساسي والإلزامي يساهم في صناعة أمية مبطنة.
الأحد 2023/05/21
جيل كامل يدفع الثمن

فرضت الحرب السورية إلى جانب الظروف المعيشية الصعبة والقوانين العاجزة، تسرب الكثير من الطلاب من المدرسة داخل البلاد وخارجها، فالكثير من العائلات فقدت معيلها أو سكنها وعانت من النزوح المتكرر.

دمشق - لا تجيد لمى، تلميذة في الصف السادس من المرحلة الابتدائية، القراءة والكتابة وهي واحدة من المئات من التلاميذ السوريين الذين سيخضعون في المستقبل لدورات محو الأمية، ليستطيعوا التأقلم مع حياتهم.

لمى كما المئات أو الآلاف من الأطفال في سوريا باتوا يواجهون خطر التحوّل إلى جيل أمّي أو في أحسن الأحوال من غير المتعلمين بالكاد يعرفون القراءة والكتابة، سواء بسبب الحرب أو لأسباب أخرى اجتماعية أو قانونية، فحتى المناطق التي بقيت بعيدة عن الأزمة مثل مدينة طرطوس الساحلية التي تنتمي إليها لمى، توجد فيها حالات من الأمية المقنعة نتيجة القانون.

يحارب قانون التعليم الأساسي والإلزامي في سوريا رقم 32 لعام 2002 والقانون رقم 7 لعام 2012 الأمية الأبجدية، ولكنه في الخفاء يساهم في صناعة أمية مبطنة، فعندما يرسب التلميذ في الصف الأول أول مرة يسمح له بالتقديم للمرة الثانية، وعندما يرسب للمرة الثانية يرفع للصف الأعلى بموجب عملية نقل رسمية قانونية.

وتبقى الأمية الأبجدية واقعا لا مفر منه، خاصة مع وجود المادة رقم 40 التي تقول لا يجوز أن يرسب التلميذ أكثر من ثلاث مرات في كامل المرحلة التعليمية، والمادة رقم 41 التي تقول لا يجوز أن يرسب التلميذ في أي من الصفوف الستة الأولى من المرحلة لأكثر من مرة واحدة في صف واحد، أو مرتين في مجمل هذه الصفوف.

ثلث أطفال سوريا خارج العملية التعليمية بعد عقد شهدت فيه البلاد صراعا بين النظام وقوى المعارضة

وبموجب المادة رقم 45 لا يفصل التلميذ من المدرسة بل ينقل إلى الصف الأعلى بعد استنفاد فرص الرسوب، علما أنه يخضع لدورات تقوية صيفية لتدارك التقصير.

وفيما طُبق قانون إلزامية التعليم رقم 7، إلا أنه عمليا لم يحدد مجانية التعليم، حيث إن ارتفاع تكاليف المستلزمات المدرسية أصبح يفوق قدرة المواطنين الشرائية، في ظل الظروف الاقتصادية السيئة منذ بدء الحرب السورية بل حتى قبلها، بحسب إحصائيات محو الأمية في البلاد والتي سجلت تدنيا ملحوظا، حيث سجل مكتب الإحصاء السوري أن نسبة الأمية هي 5 في المئة من مجموع السكان البالغ 22 مليون نسمة للعام 2009، بينما وفقا لتقرير أصدرته منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة “يونيسف” عام 2014، فإن ما يقارب ثلاثة ملايين سوري لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة داخل البلاد أو في دول اللجوء المجاورة، في حين بقي عام 2016 أكثر من 1.7 مليون طفل سوري داخل البلاد بلا مدارس، إذ إن مدرسة من كل ثلاث مدارس تهدمت بسبب الحرب.

وفي كافة المحافظات السورية، هناك واقع مؤلم فرضته الظروف المعيشية الصعبة على الطلاب الذين باتوا يتسربون من المدرسة، بهدف العمل ومساعدة أهلهم في تأمين اللقمة. وتعود حالات التسرب الكبيرة لاضطرار الكثير من الأطفال إلى التوجه نحو سوق العمل نتيجة الظروف المعيشية الصعبة التي خلفتها الحرب، فالكثير من العائلات فقدت معيلها أو سكنها وعانت من النزوح.

وحتى في دول اللجوء المجاورة وبسبب الوضع المعيشي المتدهور للاجئين، امتنعت أعداد كبيرة من الأسر السورية عن إرسال أبنائها إلى المدرسة، فالطفل ما إن يصل إلى سن العاشرة حتى تبدأ رحلة العمل لمساعدة الأهل في تأمين معيشتهم.

حالات التسرب الكبيرة تعود لاضطرار الكثير من الأطفال إلى التوجه نحو سوق العمل نتيجة الظروف المعيشية الصعبة

وإضافة إلى ظروف الحرب التي مرت بها البلاد لعشرة أعوام خلت، والتي سببت نزوح وهجرة الأهالي والدمار الكبير الذي قلص من المباني المدرسية، فإن الوضع الاقتصادي المتدني والفساد في المؤسسات التربوية والتعليمية كان لهما الأثر البالغ في تراجع التعليم في سوريا، ذلك أن بالرغم من حرص الدولة على فرض الدوام المدرسي على التلاميذ ومساءلة الأهالي سبب عدم إرسال أبنائهم إلى المدرسة، لكن تم غض الطرف عن أسباب عزوف الأهالي عن متابعة أولادهم للدراسة.

وانتشرت الأمية بين أطفال ومراهقين وشباب، والطفل محمد (10 سنوات) يؤكد أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وترك المدرسة منذ أن كان في الصف الأول الابتدائي، بسبب نزوح أهله إلى منطقة لا توجد فيها مدارس.

وقال محمد “أعمل الآن في ورشة للسيارات مقابل أجر مادي زهيد، لأتعلم مهنة تعوضني عن الدراسة”.

أما الطفل شادي (9 سنوات) فلم يدخل مدرسة في حياته، بسبب غياب المدرسين عن القرية التي يقطن بها.

وكشف الخبير التربوي فواز العواد أن ثلث أطفال سوريا خارج العملية التعليمية بعد عقد شهدت فيه البلاد حراكا شعبيا تحول إلى حرب أهلية.

وقال العواد، وهو مدير “مركز مداد للدراسات والبحوث التربوية”، إن بعد عقد من الصراع “يواصل الأطفال في سوريا دفع ثمن الأزمة، إذ يعاني نظام التعليم من الإجهاد الكبير ونقص التمويل والتفكك وعدم القدرة على تقديم خدمات آمنة وعادلة ومستدامة للملايين من الأطفال”.

مستقبل مظلم
مستقبل مظلم

وتأسس “مركز مداد للدراسات والبحوث التربوية” عام 2020، وهو مؤسسة بحثية متخصصة بالدراسات التربوية والتعليمية، ويهتم خصوصا بحاجات المجتمع السوري، سواء في الداخل أو في بلدان اللجوء.

وأشار العواد إلى أن تقريرا لمنظمة “يونيسف” عن أثر الحرب على الواقع التربوي في سوريا، كشف أن عدد المدارس التي تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي، تجاوز أربعة آلاف مدرسة منذ منتصف 2011، أي ما يشكّل نحو 40 في المئة من إجمالي عدد المدارس في سوريا.

وأضاف “لا شك في أن البنيان والعمران في سوريا اللذين لحق بهما الدمار يحتاجان إلى مليارات لإعادة بنائهما، ولكن الأهم من ذلك والأسبق، هو بناء الإنسان المسلح بالعلم والمعرفة والأخلاق”.

ويحذّر العاملون في قطاع التعليم شمالي غربي سوريا، من خطورة انقطاع جيل كامل عن الدراسة، فالظروف المعيشية أجبرت مئات الآلاف على ترك مقاعد الدراسة والاتجاه نحو العمل، إضافة إلى ضعف مستوى التعليم، مع ما يترتب على ذلك من نتائج كارثية تهدّد الأطفال بأن يكونوا ضحية الأميّة في القرن الحادي والعشرين.

ويتردد الطفل مصطفى الداني (14عاما)، وهو اسم مستعار لنازح في مدينة إدلب شمال غربي سوريا، إلى مركز لمحو الأمية افتتحته إحدى منظمات المجتمع المدني لتعلم أساسيات القراءة والكتابة، والتي لم يكن يجيد أيا منها بسبب انقطاعه عن مدرسته نتيجة نزوحه المتكرر.

المحظوظون.. قلة
المحظوظون.. قلة

ويقول الطفل إن إحساسه بالخجل والجهل أمام أهله وأصدقائه دفعه إلى الالتحاق بالمركز بهدف تعلم أساسيات القراءة والكتابة والعمليات الحسابية البسيطة التي تمكنه من تجاوز مشكلات تصادفه في حياته اليومية.

غير أن الكثير من أقران مصطفى لا يجيدون المهارات الأساسية للتعليم الابتدائي نتيجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي ألقت بظلالها على المئات من الأطفال في منطقة إدلب.

وخلال سنوات من تدهور قطاع التعليم، بات الضحايا الأطفال اليوم شبابا، في حين ما زالت الظاهرة مستمرة وفي ازدياد، ما يهدد مستقبل أجيال متلاحقة في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا).

ولا يعرف الشاب زكريا العوض (18 عاما)، وهو اسم مستعار لنازح يعيش في مدينة سرمدا شمال إدلب، القراءة أو الكتابة ولا أدنى عمليات الحساب البسيطة.

ويستعين بأصدقائه وإخوته الصغار لفهم الرسائل النصية على هاتفه المحمول، والحال نفسه مع عمليات حسابية يواجهها في حياته وعمله.

وانقطع الفتى عن المدرسة في السابعة من عمره بسبب تردي الأوضاع الأمنية، واضطراره إلى العمل في مهنة البناء مع والده الذي قضى بإحدى الغارات الجوية على مدينة معرة النعمان جنوب إدلب.

وقال إنه صار آنذاك المعيل الوحيد لأمه وإخوته، ما أدى إلى أن يصبح أميا يجهل القراءة والكتابة.

وأشار إلى أنه يأمل في أن يتمكن مستقبلا من الالتحاق بإحدى دورات محو الأمية لتعلم أساسيات القراءة، علّه يتخلص من العقبات التي تواجهه بسبب جهله لقواعدها.

ورغم أن التعليم خارج المدرسة يستقطب نسبة من أطفال إدلب، إلا أن أولياء أمور يقولون إن مواد مثل اللغة الإنجليزية والرياضيات تحتاج إلى متابعة من معلم مختص في المدرسة.

Thumbnail

وتشير إحصاءات منظمة “يونيسف” التابعة للأمم المتحدة إلى أن أكثر من 2.8 مليون طفل سوري غير ملتحقين بالمدرسة.

وأعلنت المنظمة في آخر تقرير لها حول تعليم الأطفال أن 2.1 مليون طفل سوري يعيشون خارج مقاعد الدراسة في سوريا، بينما يقدّر عدد المتسربين من مواطنيهم في دول الجوار التي لجأوا إليها بنحو 700 ألف، ويتوزعون بين لبنان وتركيا والعراق ومصر.

ولفت التقرير إلى أن أكثر من نصف الأطفال السوريين اللاجئين في لبنان موجودون خارج المدرسة، لاضطرارهم إلى العمل لسدّ لقمة العيش، أو بسبب تنقل العائلة المستمر، أو لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف المواصلات إلى المدرسة.

ولم يستطع رائد (12 عاما)، الطفل النازح في مخيمات دير حسان الحدودية، الالتحاق بالمدرسة نتيجة افتقار المخيم لأي مركز تعليمي.

وقال والد الطفل إن أقرب مدرسة تبعد عن مخيمهم قرابة سبعة كيلومترات، وهو ما حال بين ابنه والمدرسة.

وأضاف أن العشرات من الأطفال والمراهقين في المخيم يعانون من انتشار الأمية بينهم.

وبحسب مختصين اجتماعيين في إدلب، فإن أسباب تفشي الأمية هو تدهور القطاع التعليمي في إدلب وافتقار العديد من المناطق للمدارس وخاصة المخيمات، ما دفع أهالي إلى إيقاف تعليم أطفالهم ودفعهم نحو العمالة، مرددين مقولة “الدراسة في هذه الأيام ما بتطعمي خبز”.

Thumbnail

وأجريت دراسة على عينة من الأطفال أظهرت أن ثلاثة من بين كل عشرة أطفال لا يجيدون القراءة أو الكتابة.

ويقول المختصون إن الحملات التوعوية وزيادة مراكز محو الأمية وإنشاء الخيم التدريسية في المخيمات ومناطق شمال غربي سوريا من شأنها التخفيف من هذه الظاهرة التي تهدد مستقبل الآلاف من الأطفال.

واعتبر المختصون أن بقاء الظاهرة دون معالجة “سيقضي على مستقبل جيل كامل من الأطفال الأميين”.

وفي وقت سابق، أعلنت منظمة “بنفسج” للإغاثة العاملة شمال غرب سوريا، عن إطلاق مشروع تدريبي لـ1000 معلم و25 مديرا.

ويسعى المشروع للمساهمة في دعم وصول الأطفال إلى فرص تعليم شاملة وعالية الجودة، ولتحسين مستوى التعليم في الشمال السوري، من خلال رفع كفاءات المعلمين ومديري المدارس وبناء قدراتهم تعزيزا لجودة التعليم والتعافي المبكر.

وأشارت منظمة “بنفسج” إلى أن عدد الطلاب الذين تلقوا تعليمهم في المدارس التابعة لها هذا العام بلغ أكثر من 13.500 طالب وطالبة، أكملوا عامهم الدراسي في مدارس المنظمة لعام 2021 – 2022.

15