جيش حسن الترابي في الصراع على السلطة بغطاء التخلي عنها

لا يمكن فهم ما يجري في السودان أو ما يخطط له الجيش وتحليله دون العودة إلى الماضي السياسي غير البعيد للبلد وتحديدا فهم فكر الإخواني حسن الترابي الذي لا تزال خططه وأساليبه متوغلة في مفاصل الجيش السوداني. ويحاول عبدالفتاح البرهان استكمال المهمة بأن يحكم قبضته على كل القوى المسلحة في البلاد ويواصل التحكم فيها حتى وإن سلّم الحكم للقوى المدنية.
لندن - النفاق جزء من طبيعة السياسة في السودان، وحسن الترابي (1932 – 2016) كان هو سيد اللعبة الأهم. فهو نظّم انقلابا في العام 1989، وطلب من الانقلابيين أن يودعوه السجن، للتغطية على هويتهم الحقيقية.
وبحسب اعترافاته، فإن قائد الانقلاب عمر حسن البشير لم يكن يعلم من الأساس ما هي مهمته وما هو الدور الذي يتعين أن يؤديه، حتى قبل 24 ساعة من إذاعة البيان الأول. كل الضباط الآخرين الذين شاركوا في الانقلاب كانوا لا يعرفون بعضهم بعضا من الأساس. الخيط الوحيد الرابط بينهم هو حسن الترابي وقيادة الجبهة الإسلامية القومية. فنجحوا في خداع العالم كله، بأن نظام البشير ليس “إسلاميا”، ولا يشكل امتدادا لنفوذ جماعة الإخوان المسلمين.
الترابي الذي امتلك خبرة امتدت لسبع سنوات في السجن بعد أن تولى جعفر نميري السلطة في العام 1969، خرج منه وهو يعرف ماذا يفعل لكي يتولاها إلى أمد طويل. لا تستغرب، إذا كانت البداية هي التحالف مع نميري، والتآمر عليه في آن معا! وعندما أدرك نميري الخديعة، كان الوقت قد فات! فسقط هو، وبقي تنظيم “جبهة الميثاق الإسلامي” بقيادة الترابي قويا ويمتلك نفوذا واسعا داخل الجيش.
والجيش السوداني الذي يقوده عبدالفتاح البرهان الآن هو جيش حسن الترابي، إنه جيش مشروعه الإخواني. ولكن، ليس بأقل أهمية من ذلك، إنه جيش القابلية على التآمر، وممارسة الخداع. ولقد قدم الترابي النموذج بنفسه عندما اختار أن يقود انقلابا وأن يوضع في السجن لكي يقدم رواية مضادة لما حدث.
الجيش السوداني الذي يقوده عبدالفتاح البرهان الآن هو جيش حسن الترابي، إنه جيش مشروعه الإخواني
وهذا ما يفعله الفريق أول عبدالفتاح البرهان. يقول إنه يريد تسليم السلطة للمدنيين والانسحاب إلى الثكنات. ولكنه يفعل ما فعله الترابي، لكي يبقى لاعبا من وراء الستار. وهو يقاتل الآن من أجل السلطة، لا من أجل الانسحاب منها.
محمد حمدان دقلو، غريمه الراهن، ظل منذ نشأة قوات الدعم السريع بمثابة طرف خارجي، لأن دوره كان محدودا، يتعلق بمقاومة حركات التمرد المسلحة في دارفور. وعادة ما يجري الخلط بين قوات الدعم السريع وبين انتهاكات ميليشيات الجنجويد في دارفور.
ينطوي الخلط على تجاهل للتواريخ. فالتمردات والصراعات القبلية في دارفور اندلعت في العام 2003 واشتدت لعدة سنوات تالية، وكان السبب الرئيسي فيها هو أن حكومة البشير لم تجد سبيلا لاستخدام الجيش في المعارك، فاختارت دعم ميليشيات من القبائل العربية لتعمل ضد قبائل التمرد غير العربية التي ارتبط بعضها بحركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة وتاليا الجبهة الثورية عندما امتد الصراع المسلح ضد سلطة البشير إلى شمال كردفان وجنوبها وولاية النيل الأزرق. أما قوات الدعم السريع فقد تشكلت في أغسطس 2013 وخضعت إدارتها لجهاز المخابرات والأمن الوطني.
هذه القوات لم تكن، في نظر الجيش الرسمي إلا قوة هامشية. وفي الكثير من الأحيان لم يُنظر إليها باحترام، وذلك على اعتبار أن ضباطها لم يتخرجوا من كليات عسكرية. وأدى الاستخفاف بها إلى أن المشروع التآمري الاخواني بقي بعيدا عنها. وما كان قد أصبح “تمكينا”، وفقا لآليات التآمر الترابية، يمتد إلى أجهزة الدولة ومؤسساتها وجيشها، بقي يستهين بقوات الدعم السريع، ويحط من قدر ضباطها ومكانتهم، وفي مقدمتهم الفريق أول دقلو نفسه.
ونشأت قفزة الشهرة والاهتمام عندما قاد دقلو قواته للانقلاب على البشير، دعما للتظاهرات المدنية ضده. فقط في تلك الساعة شعر قادة الجيش أن الزمام أوشك على الإفلات من بين أيديهم.
لم يكن من المناسب في ذلك الوقت أن يقاتلوا “قوات الدعم السريع”، لأن ذلك سيكون فضيحة مسبقة. ولكنهم سعوا إلى تحييدها وطمأنتها، إلى حين. كما لم يكن بوسع دقلو أن يتحدى قوة المؤسسة العسكرية. فآثر الطرفان “التعايش”، وإن ظلت الضغائن والشكوك تُدفن تحت رماد متقد.
تولت قيادة الجيش السلطة بقيادة وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف، الذي أعلن حالة طوارئ لمدة ثلاثة أشهر وتعليق الدستور وفترة انتقالية لمدة سنتين، وحظرا للتجول، سعيا لتهدئة الاحتجاجات.
وعندما لم تهدأ الاحتجاجات، وتواصلت الاعتصامات قرب مقر قيادة الجيش في الخرطوم، واندلاع مواجهات عنيفة بين المعتصمين وقوات الأمن التابعة لقيادة الجيش، أدت إلى سقوط عشرات القتلى، فقد بدا أن لعبة “الانقلاب الداخلي” لم تنجح.
وقال تجمع المهنيين السودانيين في السودان في بيان حينها إن «سلطات النظام نفذت انقلابا عسكريا تعيد به إنتاج ذات الوجوه والمؤسسات التي ثار شعبنا العظيم عليها». ودعا إلى «البقاء في الشوارع في كل مدن السودان متمسكين بالميادين والطرقات حتى تسليم السلطة لحكومة انتقالية مدنية تعبر عن قوى الثورة».
في اليوم الثاني أعلن الفريق أول أحمد عوض بن عوف تنازله عن رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، واختيار المفتش العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، خلفا له، الذي أعلن أن الحكومة الجديدة في السودان ستكون مدنية، وأن المجلس «لم يأت بحلول ولا يطمع في السلطة». وهو الكلام نفسه الذي ظل يكرره البرهان، حتى بعدما نفذ انقلابه الخاص في أكتوبر 2021، وأقال بموجبه الحكومة المدنية بقيادة عبدلله حمدوك، واعتقل عددا من وزرائها.
الذريعة التي قدمها البرهان لتدبير الانقلاب كانت الخلافات التي نشأت بين الأطراف السياسية المدنية. وفي الواقع، فإن طرفا منها كان يتحرك بموجب تدبيره هو.
انقسمت قوى الحرية والتغيير بموجب هذا التدبير إلى كتلتين. إحداهما تتعاون مع البرهان ضمن مجلس السيادة من أجل إنجاز مهمّات المرحلة الانتقالية. والأخرى “ثورية” للغاية، معارضة في العلن، ولكنها موالية في الخفاء لسلطة البرهان.
البرهان أطاح بالكتلة التي تتعاون معه، بذريعة الكتلة التي تعارضها! هذا تدبير لا يصنعه إلا الذين أوتوا علمهم من علم الترابي.
ووقفت جماعة “الميثاق” في قوى الحرية والتغيير، ضد حكومة “المجلس المركزي” التي كان يقودها حمدوك. ورفعت شعارات ثورية، للتغطية على مسعاها لتدمير المرحلة الانتقالية والتمهيد لانقلاب البرهان.
الأطراف التي شاركت في هذا “التدبير” ضمت، من حيث تدري ولا تدري، حزب البعث السوداني وحركتي تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي والعدالة والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، وقالت في بيان بأنها تنادت “كقوى إعلان الحرية والتغيير باستعادة الثورة عبر العودة إلى منصة التأسيس وإنهاء عملية الاختطاف التي تقودها مجموعة (المجلس المركزي)… ونؤكد أن ساعة نصر الثورة قد أذنت واقتربت يوم الثاني من أكتوبر بقاعة الصداقة بتوقيت الثورة، وأن حرب البيانات التي تصدر بين كل آونة وحين لن تتمكن من إيقاف المد الثوري الذي انطلق”.
ثم تكشّف في 25 أكتوبر أن “المد الثوري” هو انقلاب البرهان على الحكومة المدنية!
لا تحتاج لتفهم كيف يكون “المد الثوري” انقلابا عسكريا، إلا عندما تفهم كيف يقود حسن الترابي انقلابا عسكريا ويطلب من ضباطه أن يلقوا به في السجن.
الدعوة إلى ضم قوات الدعم السريع إلى الجيش كانت بالأحرى محاولة لتصفية الحساب مع القوة التي فتحت الطريق أمام الانقلاب على البشير. وذلك بتقييدها وتفتيتها، أو في الأقل، منعها من أن تكون قوة مستقلة.
وهي أصبحت شرطا مسبقا لعودة السلطة إلى المدنيين، من أجل أن تبقى قيادة البرهان قادرة على إدارتها من خلف حواجز الثكنات، لاسيما وأنها تعرف مسبقا أن “المد الثوري” سوف يظل يمدها بالمزيد من الفرص.