جولة موسمية تتوارثها الأجيال

رحلة البحث عن الفقع كنز الشتاء في الصحراء السعودية.
الثلاثاء 2025/01/28
اللحمة النباتية

موسم البحث عن الفقع هو أكثر من مجرد نشاط اقتصادي أو ترفيهي، إنه بمثابة احتفال بالطبيعة والتراث حيث يجمع الناس خلال هذا الموسم بين متعة المغامرة وفوائد البيئة المحلية، مما يعزز الروابط الاجتماعية بين الأفراد ويعيد إحياء التراث الذي توارثته الأجيال.

الرياض ـ تعد منطقة الحدود الشمالية في المملكة العربية السعودية من أبرز المناطق التي تشهد نمو نبات الكمأة أو ما يعرف محليا بـ”الفقع”، وهو فطر بري موسمي ينمو تحت الأرض بعد سقوط أمطار موسم “الوسم”.

ويعتبر الفقع كنزا طبيعيا ذا قيمة اقتصادية عالية، حيث يدر عوائد كبيرة على الباحثين عنه. ويعود الفضل في ذلك إلى الظروف المثالية لنموه في صحاري المنطقة الغنية بنباتات متنوعة مثل الرقروق والجريد، التي تساهم في توفير البيئة المناسبة للفقع.

ومع بداية موسم الفقع، يستعد الهواة والمهتمون لهذا الموسم الاستثنائي من خلال تجهيز معداتهم الخاصة للبحث عن هذا الكنز الصحراوي. وتشمل الاستعدادات أدوات حفر مثل “السكاريب”، التي يتم تصميمها بدقة لتمكين الباحثين من استخراج الفقع من تحت الرمال دون التسبب في تلفه. بالإضافة إلى ذلك، يتم تجهيز مستلزمات الرحلة مثل الشاي والمعلبات والخيام، حيث تمتد الرحلات في الكثير من الأحيان إلى عشرة أيام متواصلة.

وتبدأ هذه الرحلات مع بزوغ الشمس، وتستمر حتى الساعة الحادية عشرة صباحا، ثم تتوقف خلال فترة الظهيرة بسبب صعوبة الرؤية الناجمة عن انعكاس أشعة الشمس على الأرض. بعد العصر، تُستأنف الرحلة حتى غروب الشمس، في مغامرة صعبة لكنها مليئة بالمتعة والتشويق.

الفقع يعد مصدرا غذائيا طبيعيا للحيوانات الرعوية، مما يساهم في الحفاظ على التنوع البيولوجي في البيئة الصحراوية

ويعتمد الباحثون عن الفقع على عدة مؤشرات طبيعية تساعدهم في تحديد الأماكن التي قد يكون فيها الفقع. من أبرز هذه المؤشرات وجود تشققات أو انتفاخات طفيفة على سطح التربة تُعرف محليا بـ”الفقاعة”. وتشير هذه العلامات إلى وجود الفقع تحت الأرض، مما يساعد الباحثين في تحديد الأماكن المثلى للحفر.

ويرتبط موسم الفقع بشكل وثيق بموسم الأمطار، خصوصا تلك التي تأتي في أواخر فصل الشتاء وبداية الربيع. يبدأ موسم الفقع عادة في شهر يناير ويستمر حتى نهاية مارس، حيث تساهم أمطار الوسم في تهيئة التربة وتحفيز بذور الفقع على النمو. وتختلف سرعة نمو الفقع باختلاف كثافة الأمطار، فبعض الأنواع تنمو في فترة زمنية تتراوح بين 50 و70 يوما، بينما تنمو بعض الأنواع الأخرى بشكل أسرع.

ويشير المهندس عبدالكريم صالح الرشيد، أحد مزارعي منطقة القصيم، إلى أن الفقع يظهر في الأراضي المنخفضة القريبة من حقول القمح، خاصة بعد انقطاع الأمطار الرعدية التي يرافقها البرق. كما يوضح أن زراعة الفقع تعتمد على عوامل متعددة، مثل توقيت الري، درجة ملوحة المياه، خصوبة التربة، ودرجة الحرارة المناسبة.

ويشير كذلك إلى أن أول ظهور للفقع المستزرع في شمال القصيم يحدث في العشرين من نوفمبر، أي قبل موسم المربعانية بـ17 يوما، بينما يظهر الفقع الطبيعي بعد مرور المربعانية.

وينمو الفقع في تربة رملية أو طينية جيدة التهوية، ويُعتبر الفقع في منطقة القصيم من الأنواع الشهيرة والمتنوعة، حيث تبرز منه أربعة أنواع رئيسية وهي الزبيدي، الجباء، الخلاسي، والبلوخ. يُعتبر الزبيدي هو الأكثر شهرة لطعمه اللذيذ، بينما يُعتبر البلوخ من الأنواع المتأخرة في الموسم. وهناك مثل شعبي يقال “البلوخ للشيوخ”، في إشارة إلى تفضيل هذا النوع في نهاية الموسم.

Thumbnail

ويحتل الفقع مكانة خاصة على المائدة السعودية، وخصوصا في منطقة الحدود الشمالية، حيث يُعد من الأطباق الرئيسية المفضلة. يُقدم الفقع بأشكال متنوعة مثل الفقع مع السمن والخبز، الفقع المشوي، كبسة الفقع، وقصديرية الفقع. كما أن العديد من الأسر تحتفظ بكميات من الفقع في الثلاجات للاستمتاع به في شهر رمضان المبارك، وفي الأعياد والمناسبات الخاصة، نظرا لما يتمتع به من طعم شهي وفوائد غذائية قيمة.

وتحتضن عدد من المواقع في مدينة سكاكا ومنطقة الجوف محبي الفقع سواء من المشترين أو البائعين الذين يقومون بجمع هذا النبات البري من مناطق نموه الطبيعية في البر قرب نبات “الرقروق”.

ويقول عدد من باعة وعشاق الفقع في أحد المواقع التي يتواجدون فيها بمدينة سكاكا أن الأنواع المعروضة تشمل “الزبيدي” الذي يتميز بلونه الأبيض، و”الخلاسي” الأحمر، و”الكمأ” الذي يتميز بطعم ونكهة طيبة، مشيرين إلى أن أسعار عبوات الفقع تتراوح ما بين 150 و450 ريالا، حسب كمية العبوة الواحدة.

ويُعتبر الفقع من الأغذية ذات القيمة الغذائية العالية وله العديد من الفوائد الصحية. من أبرز فوائده، يُعد ماؤه علاجا للعين وفقا لما ورد في الحديث النبوي “الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين”. بالإضافة إلى فوائده الصحية، يلعب الفقع دورا بيئيا مهما، حيث يعد مصدرا غذائيا طبيعيا للحيوانات الرعوية، مما يساهم في الحفاظ على التنوع البيولوجي في البيئة الصحراوية.

يعد موسم الفقع شاهدا حيا على جمال الطبيعة وقدرتها على العطاء، وهو ليس مجرد نشاط اقتصادي أو ترفيهي فحسب، بل أيضا هو جزء من التراث الثقافي الذي يعكس العلاقة العميقة بين الإنسان وبيئته في المملكة العربية السعودية.

Thumbnail
16