جولة السيسي الأفريقية بين تطويق إثيوبيا ومكافحة الإرهاب

القاهرة – شكلت الجولة الأفريقية للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي التي بدأت الاثنين، وتشمل تنزانيا ورواندا وتشاد والغابون، تحركا جديدا للقاهرة يعكس مساعيها لتأمين المصالح المائية، ودرء التهديدات الأمنية القادمة من الجنوب الأفريقي، والرغبة في تعزيز العلاقات ذات الطبيعة التجارية والاستثمارية مع دول القارة.
تصب تلك المساعي في محاولات مصر الحثيثة لاستعادة مكانتها الأفريقية التي عرفت انحسارا خلال السنوات الماضية، بلغت ذروته عند تجميد عضويتها في الاتحاد الأفريقي بعد ثورة 30 يونيو 2013. نجحت القاهرة منذ عودتها إلى الاتحاد في أن تشغل حيزا في التفاعلات الأفريقية عبر تكثيف النشاط الرئاسي في القمم الأفريقية الدورية، أو عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي عن القارة، أو مساهماتها في قوات حفظ السلام الأفريقية، كذلك احتضانها لدبلوماسية المؤتمرات عندما استضافت التكتلات الأفريقية الثلاثة (الكوميسا والإيكوس والسادك) في شرم الشيح لتعزيز التكامل الاقتصادي عبر توقيع اتفاقية إنشاء منطقة تجارة حرة.
تطرح جولة الرئيس المصري، التي تستمر أربعة أيام، عدة رسائل أساسية يمكن استنتاجها من طبيعة المحطات الأربع التي سيحل فيها ضيفا، فمرجح أن تكون الشواغل المصرية الراهنة، خاصة تجاه قضيتي حوض النيل ومكافحة الإرهاب العابر للحدود عنصرا محوريا في المناقشات الرئاسية الثنائية، دون إغفال قضايا اقتصادية باتت تنظر لها القاهرة كمدخل لفتح أسواق تجارية خارجية في أفريقيا لدعم الاقتصاد المصري.
لا يمكن فصل السعي المصري نحو بناء علاقات ثنائية وثيقة مع كل من رواندا وتنزانيا عن كونهما من الدول الست التي وقعت منفردة على اتفاقية عنتيبي في العام 2010، والتي رفضتها آنذاك كل من مصر والسودان، في ضوء أن هذه الاتفاقية أهدرت حقوقهما المائية كدولتين مصب في حوض نهر النيل.
مع أن إثيوبيا تسهم بـ85 بالمئة من موارد النهر، مقارنة بدول المنابع الأخرى ومنها تنزانيا ورواندا، إلا أن القاهرة تسعى إلى تطويق تعنت وهيمنة أديس أبابا على الملف المائي عبر الحد من تأثيراتها السلبية على بقية دول منابع نهر النيل، واجتذاب تلك الدول نحو تفهم الرؤية المصرية والتي تستند إلى منطق التنمية المتوازنة لكل من دول المنبع والمصب، دون الإضرار بالأمن المائي للقاهرة.
يأتي التحرك المصري باتجاه توثيق العلاقات الأمنية والسياسية مع تشاد لدرء مخاطر تحركات الإرهاب، وضبط الحدود
ذلك الاستنتاج يجد شواهده في طبيعة التحركات المصرية لبناء الثقة مع دول منابع النيل في الآونة الأخيرة، كما بدا جليا في زيارة السيسي إلى أوغندا في ديسمبر الماضي، ثم كينيا في فبراير الماضي، بل وعودة القاهرة في مارس من هذا العام إلى الاجتماعات الوزارية لحوض النيل، دون التخلي عن رفض اتفاقية “عنتيبي”.
المياه والإرهاب
مشاركة السيسي في القمة الرئاسية في أوغندا في يونيو الماضي أعطت أهمية للمباحثات السياسية بين رؤساء حوض النيل، باعتبار أن تنظيم موارد نهر النيل لم تعد قضية فنية فحسب.
ومن قبل ذلك كله، كان اتفاق مبادئ سد النهضة في مارس 2015، والذي وقعته كل من مصر والسودان وإثيوبيا، وبعث برسالة مفادها أن مصر تتفهم احتياجات دول المنبع، دون إنكار ما تضمنه ذلك الاتفاق من مشكلات لاحقة تجلت في المراوغة الإثيوبية، وعدم الالتزام ببنوده، ومحاولة فرض الأمر الواقع على مصر.
وتمثل المحطة التشادية في الجولة الرئاسية للسيسي أهمية قصوى في مسألة مكافحة الإرهاب العابر للحدود في القارة الأفريقية، بعد أن بات يشكل تهديدا للأمن القومي المصري، فعلى الرغم من عدم وجود حدود مباشرة بين البلدين، إلا أن المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا يرتبط بحدود تشاد، والتي بدورها تمثل خاصرة أساسية للصراعات في شمال نيجيريا، خاصة النزاع مع جماعة بوكو حرام الإرهابية، ومعبرا جغرافيا لأزمتي ليبيا من جهة الجنوب، ودارفور غربي السودان.
تبدو خطورة ذلك المثلث الحدودي والذي تصب تفاعلاته الأمنية السلبية باتجاه مناطق غربي مصر، أنه بات مركزا للجماعات الإرهابية في المنطقة، في ظل ارتباط ذلك المثلث جغرافيا بمنطقة “الكفرة” جنوب شرقي ليبيا.
ترجح العديد من التحليلات الغربية أن الضغط على فلول الجماعات الإرهابية في وسط وشرقي البلاد قد تدفعهم إلى التحرك إلى المناطق الحدودية في جنوب ليبيا، في ضوء نجاح الجيش الوطني الليبي في مكافحة الإرهاب في الشرق، وطرد تنظيم داعش من مدينة سرت في العام الماضي.
يأتي التحرك المصري مبكرا باتجاه توثيق العلاقات الأمنية والسياسية مع تشاد لدرء مخاطر تحركات الإرهاب، وضبط الحدود، خاصة بعد 30 يونيو 2013، إذ زار رئيس الحكومة السابق إبراهيم محلب العاصمة إنجامينا في أبريل 2014، ثم جاء لقاء السيسي وديبي في القاهرة في ديسمبر من العام نفسه.
بخلاف اللقاء الأخير بين السيسي ووزير الدفاع التشادي بشارة عيسى جادالله في القاهرة مطلع أغسطس الجاري، وكانت القضية الأساسية للمباحثات بينهما هي تأمين السيطرة على الحدود ومكافحة الإرهاب.
بموازاة ذلك، سعت القاهرة إلى احتواء السودان بالرغم من فتور العلاقات بينهما، نظرا للاتهامات التي واجهتها الخرطوم بدعم جماعات مسلحة، خاصة في غربي وجنوب ليبيا، وموقفها الذي يميل إلى إثيوبيا في أزمة سد النهضة، كما ساندت مصر الجيش الوطني الليبي وتحالفاته الممتدة في شرقي وجنوب ليبيا لمكافحة الإرهاب، واستعادة قدرة الدولة على ضبط الحدود والأمن.
المحطة التشادية في الجولة الرئاسية للسيسي تمثل أهمية قصوى في مسألة مكافحة الإرهاب العابر للحدود في القارة الأفريقية، بعد أن بات يشكل تهديدا للأمن القومي المصري
كل ذلك بدا كانعكاس لرؤية السيسي التي طرحها في أول ظهور لمصر في القمة الأفريقية بمالابو في يونيو 2014 بعد عودتها إلى الاتحاد الأفريقي، عندما قال “إن أفريقيا مهددة بالإرهاب العابر للحدود وإن عليها مواجهته”.
شراكة تجارية
بيد أن الهدف المصري سواء لاجتذاب دول منابع النيل بعيدا عن إثيوبيا أو التعاون الأمني مع الدول الأفريقية في مجال مكافحة الإرهاب قد لا يؤتي أكله إلا في سياق تعزيز التبادل التجاري، ليس فقط مع هذه الدول، وإنما على الصعيد الأفريقي ككل، الذي لا يزال محدودا، وإن كان شهد نموا في العام 2016، حيث بلغ نحو 4.8 مليار دولار مقابل 4.5 مليار دولار في عام 2015.
تلوح أمام مصر فرص أكبر لتوسيع شراكاتها التجارية مع دول القارة، في ظل عضوية القاهرة في الكوميسا ومنطقة التجارة الحرة، بخلاف سعي المؤسسات المصرية لاستكشاف الأسواق الأفريقية.
ولوحظ أن الرئيس المصري استبق جولته الأفريقية باجتماع مع رئيس الهيئة العربية للتصنيع الفريق عبدالعزيز سيف الذي قام بجولة في عدد من الدول الأفريقية مؤخرا، في سياق تبادل الخبرات وعرض التعاون في المنتجات المدنية والعسكرية.
فرغم أهمية التحركات الرئاسية المصرية في الملف الأفريقي لاستعادة مكانة القاهرة في القارة، تظل المعضلات قائمة حول كيفية بناء استدامة مؤسسية لا ترتبط فقط بالتوجهات الرئاسية تجاه أفريقيا، وطرح ميز نسبية وتوفير بيئة جاذبة تكفل لهذا البلد تأمين مصالحه الحيوية، والتي بات التنافس عليها متصاعدا سواء من قوى إقليمية أو دولية.