جوقة مؤذنين دمشقيين ترفع الأذان بصوت واحد

يحافظ مؤذنو الجامع الأموي الكبير وسط دمشق على تقليد متوارث يعود إلى أواخر القرن الخامس عشر يُعرف بـ”أذان الجوق” ويتطلب من مؤديه معرفة بالطبقات الموسيقية والمقامات.
دمشق – يتجمّع ستة مؤذنين، أكبرهم محمد علي الشيخ، أمام مكبر للصوت داخل غرفة صغيرة في الجامع الأموي الكبير وسط دمشق، وما إن يحين موعد الصلاة حتى تصدح حناجرهم جماعياً بأذان الظهر، إحياء لتقليد متوارث وفريد من نوعه يُعرف بـ”أذان الجوق”.
ويقوم هذا التقليد على اجتماع ستة مؤذنين من بينهم الشيخ وابن شقيقه أبوأنس لرفع الأذان بأصواتهم الشجية، حيث يبدأ مؤذن بجملة “الله أكبر.. الله أكبر”، ويردّد المؤذنون الخمسة خلفه الجملة ذاتها معاً.
ويعتبر الشيخ، وهو في الثمانينات من عمره، واحد من 25 مؤذناً يتناوبون ضمن مجموعات على رفع الأذان من الجامع الذي يقع في قلب دمشق القديمة ويُعدّ من أبرز المساجد الإسلامية في العالم وشاهداً على عدّة حقب دينية وتاريخية.
وأُوصدت أبواب الجامع منتصف مارس الماضي في مشهد لم يعتده السوريون قط حتى في أقسى مراحل الحرب، بسبب انتشار فايروس كورونا المستجد. ورغم ذلك، لا يزال الأذان يصدح منه يوميا ويؤنس المواطنين الذين يلازمون منازلهم.
وقال الشيخ “نحن سلالة مؤذنين (…) أنا مؤذن منذ 68 عاماً، كان الوالد مؤذناً. كنت صغيراً حينها وقال لي المؤذنون: صوتك جميل تعال وأذّن معنا”.
وأوضح “في العالم كله لا مثيل للجامع الأموي وميزته بهذا الأذان الجماعي” الذي يصدح عبر ثلاث مآذن باسقة تميّز هندسته وتُعرف بالغربية والشرقية والعروس.
وقبل وصول مكبرات الصوت في ثمانينات القرن الماضي إلى دمشق، جرت العادة أن يُرفع الأذان مباشرة من المآذن الثلاث المطلة على أنحاء دمشق كافة. ويروي الشيخ أن “ما يتراوح بين سبعة إلى 15 مؤذناً أحياناً كانوا يجتمعون في مئذنة العروس لرفع الأذان”.
ويرفع الأذان في المساجد السورية الأخرى، مؤذن واحد. وتتعدّد الروايات حول جذور أذان الجوق ومتى بدأ اتباعه في دمشق. ويتناقل مؤذنو المسجد أن الهدف منه كان إيصال الصوت إلى أرجاء واسعة من المدينة.
وبحسب المهندس ومؤلف كتاب “الجامع الأموي في دمشق” طلال عقيلي، بدأ اعتماد الأذان الجماعي في أواخر القرن الخامس عشر حين كان الحجاج من المنطقة كافة يلتقون في دمشق قبل انطلاقهم إلى مكة المكرمة. وكان الهدف منه إبلاغ الحجاج بموعد الصلاة.
وقال الشيخ “يجب أن يكون صوت المؤذن جميلاً وعاليا، وبعد ذلك يتعلم الأداء والتجويد” على أن يُمنح “الشهادة عندما يضبط إيقاع الأذان وقواعده”.
وفي غرفة مخصّصة لاستراحة المؤذنين ومتصلة بمطبخ صغير وحمام خاص، يستريح المؤذنون يومياً قبل الأذان وبعده. يتشاركون وجبات الطعام والأحاديث وينظفون المكان بالتناوب.
ويتفقون على برنامج إنشادي يقدّمونه كل يوم جمعة قبل موعد الصلاة. ومنذ عشر سنوات، يتردّد أبوأنس بشكل يومي على الجامع. ويقول “توارثنا الأذان أباً عن جد… خمسة أجيال على الأقل بحسب ما نعرفه.. ليست هواية، إنها تجري في دمنا”.
وأوضح كيف تتم تلاوة أذان الجوق، وفق مقامات عدة موزعة على الأيام، كمقام الصبا السبت والبيات الأحد والنوى الإثنين، لافتاً إلى أن “أهالي المنطقة اعتادوا سماع المقامات، وبات استخدامها وسيلة للحفاظ على هذا التراث”. ويتميّز الجامع الذي يعرف كذلك باسم جامع بني أمية وله مكانته الرمزية والدينية، إلى جانب مآذنه التي يمكن رؤيتها من أنحاء عدة من دمشق بمصلاه وصحنه الواسعين وبجدرانه المغطاة بلوحات الفسيفساء. ولطالما شكّل مع سوق الحميدية الشهير الذي يؤدي إليه وجهة رئيسية لزوار دمشق.
ومن بين مؤذني الجامع الأموي محمد الصغير (52 عاما) الذي يدير، على بعد أمتار من الجامع، في حي القيمرية، متجرا صغيرا لبيع الحلي الفضيّة. وعندما يحين موعد الصلاة يقفل محلّه ويتوجّه إلى الجامع للمشاركة في رفع الأذان، معتذراً لزبائنه إذا دعت الحاجة. وقال “يتفهم الناس ذلك، حتى أن الزبائن المسيحيين يسألونني الدعاء لهم”. وأشار إلى أنه تعرّف على المؤذنين بحكم مكان عمله، مضيفا أنهم وجدوا أنّ “صوتي جميل وأعرف الطبقات الموسيقية والمقامات من دون الخضوع لأي تدريب”.
وتابع “فخور بأنني مؤذن في الجامع الأموي (…) هذا تراث لسوريا ويتشوّق الجميع لسماعه”.