جورجيا ساحة صغيرة لصراع النفوذ بين الغرب وروسيا

استئناف الطيران بين موسكو وتبليسي يستفز الغرب.
الاثنين 2023/05/29
قرار الحكومة يصطدم برفض شعبي

التقارب المتسارع بين جورجيا وروسيا والذي عبرت عنه عودة الرحلات الجوية بين البلدين يثير استفزاز الغرب، في حين يشكل ذلك متنفسا لموسكو والروس للسفر نحو العالم بما في ذلك أوروبا.

تبليسي- وصلت أول رحلة لشركة طيران روسية إلى تبليسي يوم التاسع عشر من مايو، مما شكّل استئنافا رسميا للحركة الجوية بين جورجيا وروسيا. ولاقى هذا التطور ردود فعل متباينة في البلاد التي عبّر جزء من شعبها عن معارضته عبر خروجه في احتجاجات.

وبدت النخبة الحاكمة منقسمة، وقال رئيس الوزراء الجورجي إيراكلي غاريباشفيلي إن استئناف السفر الجوي سيساهم في تعزيز اقتصاد البلاد وسيحقق فوائد للشعب.

لكن الرئيسة الجورجية سالوميه زورابيشفيلي، التي تتخذ موقفا مبدئيا أكثر من حكومة “الحلم الجورجي”، كتبت على تويتر في نبرة غير متحمسة “رغم معارضة الشعب الجورجي، هبطت روسيا برحلتها غير المرحب بها في تبليسي”.

ماثيو ميلر: ليس الآن الوقت المناسب لزيادة التعامل مع روسيا
ماثيو ميلر: ليس الآن الوقت المناسب لزيادة التعامل مع روسيا

ويرى المحلل السياسي بيكا تشيديا في مقال لمؤسسة جيمس تاون أن المجتمع الجورجي يخشى أن تكون سلطاته الموالية لروسيا قد دخلت مرحلة خطيرة بالفعل من التقارب المتسارع مع موسكو.

وأكدت روسيا من جهتها رغبتها في أن تصبح جورجيا مركزا لسفر الروس المنتظم إلى أوروبا.

 وصرح نائب رئيس الاتحاد الروسي لصناعة السفر دميتري غورين بأن رحلات شركة الطيران الروسية ريد وينغز المنطلقة من موسكو في اتجاه كوتايسي ستسمح للروس باعتماد هذا المطار في رحلاتهم إلى دول ثالثة، بما في ذلك الأوروبية. ويعني هذا أن جورجيا ستكون من بين تلك الدول التي تساعد روسيا في تجاوز العقوبات الغربية.

ولذلك أكّد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، خلال مؤتمر صحفي عقد في الثاني والعشرين من مايو، قلق الولايات المتحدة بشأن استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين روسيا وجورجيا، قائلا إن ذلك “قد يعني أن الشركات والمطارات الجورجية قد تكون في مدار خطر العقوبات. ليس الآن الوقت المناسب لزيادة التعامل مع روسيا”.

كما صرح الأمين العام لمنظمة الناتو ينس ستولتنبرغ في الرابع والعشرين من مايو، في إشارة إلى جورجيا وغيرها، “نتوقع أن يلتزم الحلفاء من خارج الناتو بالعقوبات وألا يسهلوا على روسيا تمويل نفسها وتنظيم حرب العدوان على أوكرانيا”.

ومع وصول الطائرة إلى تبليسي، استأنفت الخطوط الجوية الجورجية رحلاتها إلى روسيا أيضا. لكن مدير عام شركة “جورجيان آيروايز” تماز جاياشفيلي قال إن التوقعات العالية لاستئناف الرحلات الجوية بين روسيا وجورجيا لم تتحقق بعد، حيث لم تمتلئ نصف المقاعد. وأعلن أن هذا الصيف سيشهد انطلاق نقل الروس عبر جورجيا إلى أوروبا. ويكشف هذا أن خطاب السلطات الجورجية الذي يدّعي أن استئناف السفر الجوي مع روسيا يخدم مصلحة الشعب الجورجي لا يعكس الحقيقة.

كما نفت السلطات الجورجية تقارير يُزعم أنها تسربت إلى وسائل الإعلام الأرمنية في الثاني والعشرين من مايو. وكانت تقول إن عمليات نقل البضائع المنتظمة قد استؤنفت بالفعل بين ميناء باتومي الجورجي وميناء نوفوروسيسك الروسي، الذي يخضع للعقوبات.

ينس ستولتنبرغ: نتوقع أن يلتزم الحلفاء من خارج الناتو بالعقوبات وألا يسهلوا على روسيا تمويل نفسها
ينس ستولتنبرغ: نتوقع أن يلتزم الحلفاء من خارج الناتو بالعقوبات وألا يسهلوا على روسيا تمويل نفسها 

وينفي المسؤولون الحكوميون أنهم علموا مسبقا بوجود ابنة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الخاضع لعقوبات غربية، داخل حدود بلادهم. واندلعت الاحتجاجات في المكان الذي كانت تحتفل فيه بزفاف أحد أقربائها، حيث كان الجورجيون غاضبين من أن ابنة أحد منظمي غزو جورجيا كانت في بلدهم. ووجهت زورابيشفيلي في نفس اليوم خطابا إلى الأمة وهنأت الشعب بأن ابنة لافروف غادرت البلاد قبل الموعد الذي كانت تنوي فيه الرحيل.

التزمت السلطات الجورجية الصمت بشأن كيفية دخولها البلاد ولماذا قررت النخبة الروسية الاحتفال بهذا الزفاف في جورجيا، التي يبقون رسميا في حالة حرب معها. وما أثار دهشة الشعب أكثر هو تكليف وحدات خاصة من الشرطة الجورجية بحراسة حفل الزفاف وأقارب لافروف.

وتجاهلت وسائل الإعلام الروسية من جهتها الاحتجاجات على استئناف السفر الجوي وعلى تواجد ابنة لافروف في جورجيا. وكان هذا غير مألوف، حيث يتفاعل النشطاء الروس الداعمون للنظام بشكل واضح وعلني مع الاحتجاجات المناهضة لروسيا في جورجيا. وفي الحقيقة، تقرر إنهاء حركة الطيران بين البلدين في 2019 بعد احتجاجات مماثلة. وعملت دعاية الكرملين هذه المرة على إفهام الجمهور الروسي المحلي أن كل مواطن جورجي ينتظر بفارغ الصبر استئناف الحركة الجوية ووصول المزيد من المواطنين الروس إلى البلاد.

وبُثّت مقاطع تصوّر الجورجيين الداعمين لروسيا الذين شكروا بوتين أمام كاميرات وسائل الإعلام الروسية في التاسع عشر من مايو في مطار تبليسي الدولي.

تجد جورجيا نفسها في وضع حرج بسبب العلاقات الخطيرة التي تجمع السلطات الجورجية والكرملين وراء الكواليس.

واقترح نائب مجلس الدوما الروسي سيرغي غافريلوف استعادة العلاقات الدبلوماسية (التي توقفت بعد الغزو الروسي في عام 2008) بعد استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين موسكو وتبليسي، وتبادل السفراء مرة أخرى. لكن من غير المقبول في جورجيا فتح سفارة ثالثة في تبليسي في ظل الظروف التي يوجد فيها لروسيا بالفعل “سفارتان” في أبخازيا المحتلة وما يسمى بـ”جمهورية أوسيتيا الجنوبية”.

خطاب السلطات الجورجية الذي يدّعي أن استئناف السفر الجوي مع روسيا يخدم مصلحة الشعب الجورجي لا يعكس الحقيقة

لكن لروسيا خططا طويلة الأجل بخصوص جورجيا. ويمكن لموسكو (اعتمادا على ولاء السلطات الجورجية) أن تحقق الكثير في ما يخص مصالحها في جنوب القوقاز. ومنذ استئناف الرحلات الجوية، انطلق المسؤولون الحكوميون الروس والجورجيون بالفعل في النظر في استئناف حركة السكك الحديدية عبر أبخازيا. ويمكن لمثل هذا التطور أن يعني اعتراف تبليسي بسيادة أبخازيا، لكنه سيزيد من تعميق المواجهة بين جورجيا والغرب لأن هذه الخطوة تمثل تواطؤا واضحا في مساعدة روسيا على تجاوز العقوبات الغربية. ولا يخفي الروس في هذا أهدافهم الحقيقية. وقال رئيس غرفة تجارة وصناعة روسيا الاتحادية سيرغي كاتيرين “من الضروري تنظيم النقل بالسكك الحديدية عبر أراضي أبخازيا إلى روسيا”. ويكمن هدف موسكو النهائي بالتالي في تنظيم طريق عبور من روسيا عبر جورجيا إلى إيران.

كما من المحتمل أن تدعم السلطات الجورجية تنفيذ هذه الخطط ضد إرادة الشعب الجورجي. ويبدو السيناريو الأقرب (وقد حُددت شروطه المسبقة) هو أن الحكومة الجورجية ستصور للشعب أن “الحلم” الجديد هو استعادة وحدة أراضي جورجيا.

وسيصبح هذا الهدف مبررا لأي خطوات تجاه روسيا، بما في ذلك استعادة العلاقات الدبلوماسية واستئناف اعتماد السكك الحديدية عبر أبخازيا. ومن المؤكد أن هذه الإجراءات ستلاقي رفض شرائح متعددة من الجورجيين، وستضر بآفاق بلادهم في تحقيق اندماج أكبر مع الغرب ومسار عضويتها في الاتحاد الأوروبي.

6