جهاديو جنوب شرق آسيا يتراجعون نحو العدو الأقرب

جاكرتا - يطرح الباحث الاستراتيجي في الكلية الحربية القومية الأميركية، زكاري أبوزا، مسألة تبدو جوهرية في طريقة عمل وتحرك الجماعات الإسلامية في أي مكان من العالم، وفي منطقة جنوب شرق آسيا على وجه التحديد، وهي ثنائية العدو الأبعد والعدو الأقرب، فأيهما الأولى بالاستهداف؟ وكيف ومتى وأين يقدّم واحد على الآخر؟
فرع القاعدة في منطقة جنوب شرق آسيا التي تهدد بأن تكون خزانا بشريا هائلا للجماعات الإسلامية، قضى سنوات وهو يخوض صراعا طائفيا محليا تحت اسم “الجماعة الإسلامية” قبل أن يتبنى مقاربة دولية أوسع نطـاقا مع تفجيـرات بالي، لكن تلك الهجمة كانت بإيعاز من القاعدة، ومنذ سنة 2003 إلى 2009 لم تتمكن الجماعة الإسلامية إلا من تنفيذ هجمة كبرى واحدة تقريبا في السنة ضد موقع سياحي غربي، ومع كل عملية يتفكك التنظيم أكثر من ذي قبل.
هذا التقهقر في عمل التنظيم تسبب في انقسامات حادة بين صفوفه وبين الداعين إلى خط عمل القاعدة والداعمين لاستراتيجيا قائمة على الصراع الطائفي، لكن لم يهيمن أي من الجانبين. وبالرغم من ظهور محاولات لرأب الصدع وإقامة معسكر تدريب في مدينة أساه، انقسمت الجماعة الإسلامية في سنة 2010 وأصبحت تنظيما شبه ميت وغير قادر على تنفيذ عمليات عسكرية.
في سنة 2014 ظهر تنظيم داعش فانتعشت الشبكات الإرهابية في جنوب شرق آسيا، وتم تنفيذ عدد من الهجمات المستوحاة من طريقة داعش في التخطيط والهجوم، وذلك بسبب عمليات تجنيد قام بها قادة إندونيسيون وماليزيون في الرقة السورية، بيد أن غالبية المقاتلين من المنطقة لا يزالون مشرئبي الأعناق نحو مقاتلة العدو البعيد والانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي تؤكده وقائع وأرقام، إذ يقدر عدد من سافر من جنوب شرق آسيا إلى العراق وسوريا آنذاك بألف مقاتل وقد اصطحبوا معهم عائلاتهم، وأقدموا على حرق جوازات سفرهم في حركة احتفالية بأنهم ينوون محاربة العدو البعيد ولا يفكرون في الرجوع بعد ما يعتبرونه رحلة الجهاد وقد جذبتهم وعود تنظيم الدولة الإسلامية وطريقته في الدعاية التعبوية وتزيين الطريق نحو الجهاد.
البعض من مقاتلي هـذه المنطقـة لم تشدهم الدعاية الداعشية وحدها بقدر ما وجدوا أنفسهم في الوقت الحالي أضعف من أن يهاجموا حكومة بلادهم، ورأى آخرون القتال مع داعش طريقة لصقل مؤهلاتهم الجهادية واكتساب مهارات عسكرية قبل العودة إلى الديار للتركيز على العدو الداخلي القريب.
مقاتلون يرون أن القتال مع داعش طريقة لصقل مؤهلاتهم واكتساب مهارات عسكرية قبل العودة إلى التركيز على العدو الداخلي
أعلنت التنظيمات والخلايا الموجودة في مختلف أنحاء منطقة جنوب شرق آسيا البيعة لزعيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي الذي لم يعترف تنظيمه بأي جماعة أو خلية من المنطقة إلى شهر يناير 2016 عندما أشار إعلام داعش إلى اسنيلون هابيلون من جماعة أبي سياف بكلمة “الشيخ” ودعا المجموعات الأخرى التي بايعت الدولة الإسلامية إلى الانصياع لأمره. ومكّن هذا الاعتراف المقاتلين في المنطقة من إعادة توجيه أنفسهم مرة أخرى نحو العدو المحلي في سعيهم لإقامة ولاية تابعة لدولة الخلافة.
وتصاعدت هذه الحركة على إثر بث الإعلام المركزي للتنظيم الإرهابي فيديو في منتصف سنة 2016 دعا المجندين من جنوب شرق آسيا إلى السفر إلى ميندناو أو الانخراط في عمليات في المنطقة إذا لم يتمكنوا من السفر إلى سوريا التي أصبحت الرحلة إليها أكثر خطرا بعد زيادة التعاون الدولي بين القوات الأمنية، وفي هذا الإطار أرجعت السلطات التركية المئات منهم بما في ذلك 430 من إندونيسيا لوحدها.
ويرى الخبير الأميركي، زكاري أبوزا، أن نجاح المقاتلين الذين بايعوا داعش في تضييق الخناق على القوات المسلحة الفلبينية، سيجلب بالتأكيد المزيد من المؤيدين والمجندين، فبعد قيامهم بحصار مدينة مراوي في مناسبتين، أثبتوا أن بإمكانهم جر المعركة ضد الحكومة الفلبينية.
وأثبتت معركة مراوي أهمية استهداف العدو المحلي لأن ذلك في حد ذاته سيجذب المقاتلين الأجانب من منطقة جنوب شرق آسيا وما أبعد من ذلك، ونظرا لضعف الجيش الفلبيني وتشتته على مساحات شاسعة فإن ذلك من شأنه أن يلحق المزيد من الهجمات، وما يعنيه ذلك في البعدين التكتيكي والاستراتيجي.
وكذلك ستـوفر جماعـة البـوغرم من ميانمـار جمعا جـديدا مـن الطـاقات القتـالية يمكـن تجنيـدها والاستفادة منهـا في شبكات الاختراق بعـد أن أدت عمليـة التطهير الطائفية الجارية ضد 1.1 مليون مسلم من أقلية الروهنغيا في مينمار إلى وفاة أكثر من 600 ألف شخص ونزوح أكثر من 75 ألفا آخرين.
وبالفعل فقد نجحت السلطات الإندونيسية في إفشال مخططين إرهابيين لتفجير سفارة مينمار في جاكرتا، ومؤخرا شرع تنظيم مقاتل مسلح يحمل اسم “الحركة الاسلامية” في عمليات ضد قوات الأمن في مينمار في الوقت نفسه الذي بدأ فيه داعش الإشارة إلى الروهينغا في إعلامه.
وهناك إشارات إلى أن الحركة الإسلامية تحاول التجنيد من بين لاجئي الروهينغا في بنغلادش مع تزايد الاعتقالات للمواطنين البنغاليين في مختلف أنحاء المنطقة.
خطر التهديدات الإرهابية يتفاقم في جنوب شرق آسيا لعوامل داخلية وخارجية، وزيادة على ذلك هناك عدة مئات من المتهمين بالإرهاب في السجون، وسيتم الإفراج عن معظمهم في السنوات القادمة ومن المستبعد سفرهم، وسيتوجهون بتحركاتهم نحو العدو الأقرب وفق استراتيجياتهم المتحركة، دون أن ننسى السجون التي كانت ولا تزال بؤرا للتطرف والاستقطاب والتنسيق وسط الجماعات التكفيرية.
هكذا أدت التطورات الأخيرة إلى عودة التركيز على العدو الداخلي في جنوب شرق آسيا، وإلى أن يظهر تنظيم سلفي مقاتل من رفات داعش، سيتراجع الأعداء البعيدون ليظهر القريبون في التفكير الاستراتيجي لدى المقاتلين الإسلاميين في منطقة جنوب شرق آسيا.