جنود الخفاء في المظاهرات العراقية أطباء وطباخون وحلاقون

تختلف الاحتجاجات في العراق عما سبقها من الاحتجاجات، فالتنظيم المحكم وتجنّد الأطباء والصيادلة والطباخين وحتى الحلاقين للمشاركة في هذه المظاهرات والقيام بمهام تبدو في ظاهرها بعيدة عن رفع الشعارات، لكنها مكملة بل ضرورية لنجاح مهمات الشباب الذين يواجهون الرصاص والغاز.
بغداد- لا يزال المحتجون صامدون في مختلف ساحات المدن العراقية، رغم سقوط المئات من القتلى والآلاف من الجرحى، في الاشتباكات المتواصلة يوميًا بين قوات الأمن والمتظاهرين.
ما يميّز الاحتجاجات التي بدأت مطلع أكتوبر الماضي، وباتت تُعرف بـ”ثورة تشرين”، عن سابقتها في السنوات الماضية، هو الزخم المتصاعد للاحتجاجات، خاصة في ساحة التحرير في بغداد، قرب “المنطقة الخضراء” شديدة التحصين، حيث توجد مقرّات الحكومة والبعثات الدبلوماسية الأجنبية.
وكانت الحكومة العراقية تتوقّع أن يتكفّل الإرهاق بإنهاء الاحتجاجات المطالبة برحيل الحكومة والأحزاب الحاكمة، ومكافحة الفساد، ومحاسبة الفاسدين في السلطة، خاصة بعد موجة القمع التي تمارسها السلطات الأمنية.
وتوقفت الاحتجاجات لفترة، حتى انتهاء ذكرى “أربعينية الحسين”، ثم استأنف المحتجون تحركاتهم في الخامس والعشرين من الشهر الماضي رغم المواجهات الدامية.
السر وراء تواصل الاحتجاجات يثمثّل في المتطوعين، حيث يوجد في الساحة أطباء ومسعفون وصيادلة وطباخون وحلاقون وخياطون وفنانون، يساهمون في مساعدة المحتجين على الصمود أمام القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي.
علي موسى شاب عشريني اكتسب شهرة في ساحة التحرير لخبرته في مكافحة الآثار السلبية لقنابل الغاز المسيلة للدموع.
قال علي، “أحد الأطباء اقترح عليّ أن أخلط الماء مع الخميرة في قناني بلاستيكية سعة نصف لتر، كي أرشه لاحقًا على المناطق التي تتعرض للحروق في الوجه أو العيون أو الأنف جرّاء الغازات المسيلة للدموع، وهو علاج فعاليته سريعة جدًا”.
وتابع، “في البداية كان الجميع يستخدم البيبسي كولا الشراب الغازي في غسل العينين والوجه لتقليل آثار الغازات، لكن الآن الغالبية اعتمدت طريقة الماء والخميرة، وأنا أجهّز يوميًا نحو ألفين و400 قنينة ماء بلاستيكية يتم توزيعها على ساحة التحرير”.
واستطاع محمد سعيد صاحب “تك تك” أن ينقذ أرواح العشرات من جرحى الاحتجاجات على مدى الأيام الماضية، رغم أنه لم يدرس الإسعاف، ولم يشارك في دورات مختصة بالإسعافات الأولية.
يقول سعيد، “تواجه سيارات الإسعاف صعوبة في التحرك بساحة التحرير والمناطق القريبة منها، فهناك زخم للمتظاهرين، بالمقابل هناك شوارع مغلقة، لذا أخذنا نحن سوّاق التك تك مسؤولية إسعاف الجرحى”.
ويضيف، “ننقل الجرحى إلى مستشفى الجملة العصبية القريبة من ساحة التحرير.. الجميع متعاونون معنا، ويقدّرون ما نقوم به من عمل إنساني، وهو مجاني مثل باقي الأعمال
التي تقدّم للمحتجين”. وفي عيادة مؤقتة تقول منار حمد المسعفة المتطوعة إنها ساعدت العشرات من المصابين خلال الاشتباكات، مضيفة، وسط دوي الأعيرة النارية وأبواق سيارات الإسعاف “الكثير أصيبوا بشظايا من قنابل الصوت وآخرين أصيبوا باختناق من الغاز المسيل للدموع أو أصابتهم قنابل الغاز بشكل مباشر. قُتل البعض بتلك الطريقة”.
المتطوعون يشعرون بأن الخناق يضيق عليهم مع ملاحقتهم وتلقيهم تهديدات بالقتل عبر مواقع التواصل الاجتماعي
وقال المتطوعون في تقديم الخدمات الطبية، إنهم يشعرون بأن الخناق يضيق عليهم مع ملاحقتهم وتلقيهم تهديدات بالقتل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي قلب التظاهرات أيضا، من قبل السلطات وقوى أخرى مجهولة الهوية.
ويؤكد مسوؤل أمني، أنه “جرت سلسلة من عمليات القبض على الناشطين من قبل الشرطة السرية في التحرير”، مضيفا، أن الهدف هو “تخويفهم وتشجيع الآخرين على العودة إلى ديارهم”.
يقول محمد، وهو طبيب يستخدم اسما مستعارا، إن الكثير من أصدقائه الذين تعرّضوا إلى تهديدات عبر فيسبوك، وتلقى هو أيضا تهديدات صريحة من رجال يرتدون ملابس مدنية حينما التقى بهم على أحد الجسور خلال معالجة الجرحى، وقالوا له بشكل صريح “من الأفضل لك أن تتوقف”.
واختفى العشرات من الناشطين بينهم الطبيبة والناشطة صبا المهداوي، إضافة إلى أربعة ممرضين كانوا يقدّمون الإسعافات للمحتجين، من قبل جهات مجهولة في بغداد. لكن الجيل الذي يحتل الشوارع لن يخاف بسهولة. فقد نشأ وهو يرى الجثث في الشوارع أثناء العنف الطائفي في العراق، ثم عاين رعب تنظيم الدولة الإسلامية.
ويتولّى جميل كاظم، وهو ثلاثيني، مهمة توزيع الطعام على المحتجين عبر خيمة وسط ساحة التحرير.
وهو متخصص في توزيع الساندويتشات؛ وبسبب موقعه الذي قد يكون هدفًا لقوات الأمن، يتحتم عليه التحرك بسرعة.
ويوضح كاظم أنه “يتم إعداد الطعام في أماكن تبعد عن ساحة التحرير بضعة أمتار حتى لا تكون هدفًا لقوات الأمن، في حال حصل اشتباك معها.. مهمتنا هي استمرار توفير الطعام للمحتجين”.
ويضيف، “اليوم هناك سؤال يحير الكثيرين، وهو، من أين نحصل على الأموال لإعداد الطعام بكميات كبيرة وتوزيعه مجانًا على المحتجين؟ ويستطرد قائلا، “من يريد الحصول على الجواب عليه الحضور هنا إلى ساحة التحرير، فالجميع يتبرع بمبالغ بسيطة جدا، يتم إيداعها في صندوق مخصص للطعام والشراب”.
وتطوعت العديد من العراقيات خاصة أمهات المتظاهرين وأخواتهم وغيرهن، لإعداد الطعام وتوزيعه مجاناً على المحتجين، وهو ما دفع بنشطاء وطلاب إلى إطلاق حملات تبرع لتمويل تلك المطابخ المجانية، في ظل مبيت الآلاف من المتظاهرين في الساحة وداخل مبنى المطعم التركي ونفق الباب الشرقي ومناطق أخرى.
وتصل المساعدات من مختلف المدن العراقية التي لا تشهد تظاهرات، أو من عراقيين في الخارج، وقطعت قافلة قادمة من ناحية قرة قوش البلدة السريانية، الواقعة جنوب شرق الموصل أكثر من سبع ساعات طريقا، إلى بغداد، لدعم المتظاهرين بخوذ تحمي رؤوسهم من القنابل المخترقة للجماجم، والمستلزمات الطبية للجرحى والماء والطعام، إضافة إلى مبلغ يعادل خمسة آلاف دولار جُمع عبر الفيسبوك.
هؤلاء المتطوعون في جمع التبرعات يواجهون التهديدات والمضايقات، تقول مريم التي تعمل مع فريق الدعم اللوجستي إلى جانب ناشطين آخرين، وتدير مخزون التبرعات، أنها تعتبر نفسها هدفاً لجماعات موالية لإيران، خصوصا بعد ما كتبته من آراء على شبكات التواصل الاجتماعي.
وتذكر مريم، أن مصادر رفضت الكشف عنها، أكدت لها أن اسمها مدرج في قائمة يتحدث عنها ناشطون وصحافيون وحقوقيون، بأنها من الأسماء المستهدفة منذ احتجاجات أكتوبر.
ورغم أن الساحات تغص بالآلاف من المحتجين، إلا أن الحركة تتسم بتنظيم دقيق عبر توزيع الأدوار، وهو ما يساهم بشكل كبير في استمرار الاحتجاجات، التي يشارك فيها أيضا
محتجون من محافظات الوسط والشمال والجنوب.
وبجانب العاصمة، تتواصل احتجاجات أيضا في ساحات بمحافظات أخرى عديدة، رغم ممارسة قوات الجيش والأمن العنف المفرط بحق المحتجين، وهو ما أقرّ به رئيس الوزراء، ووعد بمحاسبة المسؤولين عنه.