جنوب القوقاز لا يهنأ: لا ينتهي من حرب حتى يستعد لأخرى

باكو/ يريفان - بعد التقدم العسكري السريع الذي أحرزته أذربيجان الأسبوع الماضي، ها هي تستعد لفرض سيادتها الكاملة على ناغورني قرة باخ، الإقليم الجبلي المنفصل الذي طالما كان محل النزاع في البلاد، وكان تحت سيطرة عرق الأرمن على مدار ثلاثة قرون.
ويقول الباحث نيكولا ميكوفيك في تحليل نشره على موقع syndication bureau إنه ما إن أوشك ذلك النزاع أن يُحَل، ستتحول أذربيجان الآن إلى حل نزاعها التالي مع أرمينيا: وهو إكمال ذلك الممر المسمى ناختشيفان (أو زنغزور). ولكن على النقيض من ناغورني قرة باخ، فإن شق ممر في جنوب أرمينيا ستكون له تداعيات خطرة على المنطقة، ليرسم الخارطة الجيوسياسية لإيران وروسيا وتركيا وربما إسرائيل من جديد.
وفي 2020، عُقدت اتفاقية لوقف إطلاق النار بوساطة من موسكو، لتنهي حربا استمرت 44 يوما بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورني قرة باخ، وكانت هذه الاتفاقية تكفل “سلامة خطوط النقل بين المناطق الغربية من جمهورية أذربيجان وجمهورية ناختشيفان ذات الحكم الذاتي”. وتكون السيطرة على أجزاء اليابسة من تلك الخطوط في يد قوات الأمن الأرمنية، بالإضافة إلى "قوات حرس الحدود التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي".
ونظرا إلى أن الممر المزمع إقامته يتقاطع مع مقاطعة سيونيك، وهي الجزء الوحيد من أرمينيا الذي يشترك في الحدود مع إيران، فقد ترى أرمينيا أن وصولها إلى السوق الإيراني أصبح مهددا. وأما أذربيجان - على الجانب الآخر - فستتمتع بطريق مباشر ليس إلى ناختشيفان فحسب، بل إلى تركيا أيضا؛ العضو في حلف شمال الأطلسي، في حين أن إيران سترى أن شمالها قد أصبح شبه مطوق بالدول التركية.
ولا عجب في أن إيران ترى المشروع مؤامرة بزعامة تركيا لإنشاء ممر يربط دول حلف شمال الأطلسي بسهوب طوران، الموطن الأصلي للشعوب التركية، حيث إن وصول حلف شمال الأطلسي إلى حدودها الشمالية من شأنه إضعاف موقف طهران في جنوب القوقاز، ويشكل تهديدا وجوديا لإيران. ولهذا السبب شددت السلطات الإيرانية مرارا وتكرارا على أنها لن تسمح بإجراء أي تغييرات في الحدود الإقليمية، واصفة المسألة بأنها خط أحمر لإيران.
وكذلك تساور إيران مخاوف من أن إسرائيل قد تستغل التطورات الأخيرة لتقوية موقفها في تلك المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية. وبين عامي 2016 و2020 بلغت واردات أذربيجان من الأسلحة الثقيلة 69 في المئة من الدولة اليهودية، ولطالما ذاعت شائعات بأن إسرائيل قد تستخدم قواعدها العسكرية في أذربيجان لقصف منشآت إيران النووية.
وفي الواقع، تدرك إيران جيدا أنه إذا اكتمل ممر ناختشيفان فستصبح طهران ثاني أكبر الخاسرين في الصراع الكاراباخي بعد أرمينيا. وفي الوقت نفسه، تتعافى روسيا من هزيمتها في ناغورني قرة باخ. وعلى الرغم من حضور قوات حفظ السلام الروسية في ذلك الإقليم المنفصل وانتشارها في المنطقة كجزء من اتفاقية وقف إطلاق النار التي عُقدت عام 2020، فإن موسكو لم تتمكن من وقف تقدم أذربيجان أو منع القوات الأرمنية من إلقاء السلاح والاندماج في صفوف أذربيجان.
ولطالما كان التزام موسكو أمام أرمينيا مشكوكا في أمره، فبعد هزيمة أرمينيا أمام أذربيجان عام 2020، أصبح من الواضح أن الكرملين لن يدافع عن مصالح يريفان في ناغورني قرة باخ، إذا كان من شأن ذلك أن يهدد استقرار علاقات روسيا المربحة في مجال الطاقة مع باكو. وفي العشرين من سبتمبر، قُتل العديد من أفراد القوات الروسية، من بينهم قائد عسكري كبير في "عملية أذرية ضد الإرهاب" في ناغورني قرة باخ.
◙ لا عجب في أن إيران ترى المشروع مؤامرة بزعامة تركيا لإنشاء ممر يربط دول حلف شمال الأطلسي بسهوب طوران، الموطن الأصلي للشعوب التركية
ولم يعلق الكرملين على الأمر. وقبلها بثلاثة أعوام، في أثناء حرب كاراباخ الثانية، أطلق الجيش الأذري النار على طائرة هليكوبتر عسكرية روسية من طراز "أم.أي – 24" فوق أرمينيا، ما أسفر عن مقتل فردين من طاقمها. وآثرت موسكو الصمت مجددا. وتدرك أرمينيا أنها لا يمكنها الاعتماد على دعم موسكو، ولذا سعت إلى إبعاد نفسها عن روسيا وتطبيع العلاقات، ليس مع أذربيجان عدوها اللدود فحسب، ولكن مع تركيا أيضا.
وبالإضافة إلى ذلك، تعمل أرمينيا على تأسيس علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع الولايات المتحدة، على أمل أن يقوي ذلك موقفها في المنطقة. وقد أجرى الطرفان مؤخرا تدريبا عسكريا مشتركا، ما يمثل دليلا أكبر على أن الكرملين سيجد صعوبة في إبقاء أرمينيا داخل نطاق سطوته.
وقد تقود نتيجة انتصار أذربيجان الأخير في ناغورني قرة باخ دول الغرب وتركيا في النهاية إلى إقصاء روسيا عن جنوب القوقاز، ليصبح الكرملين ثالث أكبر الخاسرين. وتبدو موسكو المنهمكة في حربها مع أوكرانيا غير قادرة على الحفاظ على سيطرتها على أرمينيا، تلك الدولة السوفيتية سابقا التي يحتاج شعبها إلى الدعم الخارجي أشد الحاجة.
ويبدو أن نهاية صراع كاراباخ سيمثل بداية عصر جديد من الاضطرابات في جنوب القوقاز. فمن المؤكد أن أذربيجان ستواصل جهودها لتطوير علاقة تعاونية دفاعية وثيقة مع إسرائيل وتركيا، بينما قد تحاول أرمينيا تنويع وارداتها من الأسلحة، وإنهاء اعتمادها على موسكو، وتعزير علاقاتها العسكرية مع الولايات المتحدة وإيران وربما الهند أيضا. وهذا يعني أنه على الرغم من أن أحد الصراعات بين أذربيجان وأرمينيا قد قارب على الانتهاء، فإنه قد بدأ للتو صراع آخر أكثر أهمية، وهو النزاع على ممر ناختشيفان.