جربة التونسية تحتفل بالصائمين الجدد بحلوى" السردوك" و"عصيدة بالمعقود"

مدنين (تونس) - عادات رمضانية بعبق التاريخ، بعضها غذائية وأخرى في شكل ممارسات، منها التي لا تزال راسخة ولم يأت عليها الزمن مسجلة حضورها في هذا الشهر المبارك دون مبالاة بتطور الحياة، وبعضها اندثرت معالمها الأولى ولبست حلة جديدة أفقدتها جانبها الأصيل.
ففي شهر رمضان، تحضر حلوى “السردوك” (الديك) التقليدية بقوة داخل الأسواق والتي لا منافس لها مهما تنوعت الحلويات، لتضفي على أسواق حومة السوق بألوانها الزاهية بين الوردي والأحمر والأبيض، رونقا رمضانيا مميزا، يلتف حول أماكن بيعها الأطفال وحتى الكبار، فلا عودة للأب أو الجد إلى منزله مرحبا به دون أن يحمل معه قطعا من حلوى “السردوك” لأبنائه أو لأحفاده الذين يستقبلونه بشوق للظفر بقطعة منها.
وحلوى “السردوك” بسيطة في شكلها وفي مادة صنعها، ورغم ذلك لم تستطع حلويات كثيرة غزت الأسواق أن تضاهيها أو أن تنافسها في قيمتها وارتباطها الوثيق بشهر رمضان، موفرة مورد رزق لعائلات ارتبط اسمها بهذه الحلوى منذ القديم، وأورثت تقنيات ومهارات إعدادها لأبنائها، ما ضمن لها البقاء وفق أحد الباعة المنتصبين بسوق حومة السوق.
وأوضح البائع أن حلوى “السردوك” سميت كذلك لأنها تأخذ شكل الديك، ويقع إعدادها من الليمون والسكر والماء وملونات، من خلال العلك باليدين ثم يقع تطويعها لتأخذ شكلها النهائي وتشد بعود نخيل، وهي فرحة الصغار طيلة شهر رمضان، يودعونها مع حلول عيد الفطر في انتظار رمضان قادم يجددون العهد معها.
حلوى "السردوك" سميت كذلك لأنها تأخذ شكل الديك وتحضر بقوة داخل الأسواق ولا منافس لها مهما تنوعت الحلويات
ومقابل تواصل الحضور المميز لهذه الحلوى في شهر رمضان، تحضر باحتشام “العصيدة بالمعقود” في أحياء العائلات الجربية ذات الانتماء إلى المذهب الإباضي، إحياء لعادة “الدولة”، وأصل تسميتها أمازيغي “الدولث”/ “أدالث”، وتعني التداول، حسب ما يوضح الشيخ ساسي بن يحياتن، حيث كانت لها وظيفة مهمة ودور اجتماعي كبير في المساعدة على القيام بشؤون المساجد العلمية من خلال التكفل بالطلبة والتلاميذ الذين يؤمون هذه المساجد للعلم والمعرفة وخاصة علوم الدين والفقه الإباضي، قادمين من الجنوب التونسي والغرب الليبي والصحراء الجزائرية، لتكرس هذه العادة روح التضامن والتآزر، حسب قوله.
وتنطلق عادة “الدولة”، بداية من اليوم الثاني لشهر رمضان، وتتواصل وفق رزنامة محددة حتى ليلة السابع والعشرين منه، ففي كل ليلة تدعو عائلة من العائلات أقاربها للإفطار على طبق رئيسي هو “العصيدة بالمعقود” وهو مرق حلو داكن اللون يعد من الزبيب الذي ينقع في الماء ثم يرحى ويصفى قبل أن يطهى على نار هادئة لساعات طويلة حتى يصبح قوامه بين السائل والصلب، وذلك سر نجاحه، وعند تقديمه يسكب على العصيدة كما يؤكل مرقا وفق المهتمة بالتراث الجربي والناشطة بالمجتمع المدني محرزية قدور.
وكان أول طبق “عصيدة بالمعقود” يوجه إلى مسجد الحومة قبل رفع الأذان، ليفطر منه المصلون والطلبة المقيمون بالجزيرة طلبا للعلم من جهات مختلفة، كما كانت الدعوة إلى “الدولة” تتم عبر البراح، وهو شخص يجوب الأسواق والحومة معلنا في الغالب عن الوفايات والأعراس، لتجمع بذلك العائلة في يوم دولتها أعدادا كبيرة من المدعوين على طبق بسيط لا يستوجب مستوى ماديا كبيرا، وذلك مبدأ أساسي في المذهب الإباضي القائم على التواضع وعدم التكليف.
وتطور اعتماد هذه العادة عبر الزمن من عادة بالأساس للتكفل بالطلبة المغتربين بالمساجد، إلى لمة عائلية تجمع العائلة الموسعة على طبق “العصيدة بالمعقود” كأكلة تقليدية أساسية، ومعها أطباق أخرى، إلى لمة عائلية أضيق دون “عصيدة بالمعقود”، بل حلت مكانها أطباق مختلفة فرضتها الحياة والذوق الحديث، إلا أن مغزاها واحد وهو تمتين صلة الرحم والتضامن بين الأفراد وحسن القبول، وفق قدور.

وبين العادات الغذائية وعادات وتقاليد أخرى تقترن بشهر الصيام في جزيرة جربة لا تزال قائمة إلى اليوم، عادة الاحتفال بالصائمين الجدد فتيات أو فتيانا، عادة عجزت تغيرات الحياة الاقتصادية والثقافية عن طمس هذه المظاهر الثقافية والاجتماعية المتأصلة والملتصقة بالذات المحلية، فبقيت راسخة كجزء من الكيان الروحي والعقائدي، حتى إن بعض العائلات تعتبر عدم الاحتفاء بها أو التخلي عنها، أمرا سيئا أو طالع سوء يصيب العائلة، وفق قدور. فهذه العادة ترتبط أساسا بالأمازيغ من أهالي الجزيرة، حيث تنتظم احتفالات يختلف حجمها من عائلة إلى أخرى بحسب إمكانياتها المادية، فمنها من تقيم احتفالا يضاهي مناسبات الزواج بإقامة الولائم والذبائح، وسهرات يلتقي فيها الأهل والأصدقاء، ومنها من تقصر الاحتفال على العائلة الضيقة فقط، إلا أن ما يجمع العائلات كافة لإحياء هذه العادة هو إعداد طبق “البسيسة” وتزيينها بالحلوى والبيض.
ويرتدي الصائمون الجدد يوم احتفال عائلاتهم بهم ملابس تقليدية، وتجتمع حولهم العائلة الموسعة أو الضيقة لتزيين البسيسة ووضع الحناء وتُلقى الهدايا من الحاضرين نقودا أو ملابس.
ومهما اختلفت طرق وأشكال الاحتفال بالصائمين الجدد، إلا أن أبعادها ودلالاتها واحدة ومعانيها مشتركة حسب قدور، فهي إعلان عن انتقال الفتى إلى مرحلة جديدة من العمر فيها نضج وتكليف ومسؤولية، وما إشهار الصيام إلا لتأكيد هذه المعاني وتأصيل الصيام لدى الناشئة بالتشجيع والترغيب في سن هي 13 سنة للفتاة و14 سنة للفتى.
ويتواصل تشجيع الصائم طيلة شهر رمضان بدعوته في كل ليلة لدى أقاربه وجيرانه للإفطار، فيلتقي مع صائمين جدد آخرين يتبادلون الحديث عن تجربتهم الأولى في الصيام وكيف عاشوها، وعند مغادرة العائلة يعود الصائم إلى منزله حاملا معه هدية من العائلة التي استضافته وغالبا ما تكون مالية تضاف إلى ما جمعه يوم احتفال عائلته به أياما قبل حلول شهر رمضان.
وتختلف جزيرة جربة بعاداتها المغرقة في المحلية والموغلة في القدم، تكاد لا تعرف خارج أسوارها، ولكنها تشترك مع بقية الجهات التونسية في عادات كثيرة تقترن بشهر رمضان في الاستعداد له بالتنظيف وإعداد بعض التوابل والبهارات وعدة مواد أولية منها تعد أطباق مختلفة سواء عند الإفطار أو عند السحور، واحتفالات ليلة النصف وليلة السابع والعشرين وإعداد المساجد وتزيينها، وكلها عادات تفوح منها نسائم الشهر المبارك وينتشر عطره القدسي بالإيمان والأصالة.