جراح الحرب لا تندمل في دمشق

دمشق - رغم سكوت المدافع في دمشق ومحيطها، إلا أنّه في قرارة نفس عبدالقادر قاسم لم تنته الحرب أبدا، بعدما سلبته سنواتها التسع أغلى ما عنده، ابنه الوحيد ويده التي تسبّب انفجار في بترها.
على رصيف سوق شعبي وسط دمشق، يرتّب عبدالقادر (45 عاما) بيد واحدة عددا من المشاتل والنباتات والأزهار الصغيرة الملوّنة، في طقس يتكرر يوميا منذ التاسعة صباحا إلى آخر النهار.
ويقول بحسرة “من الصعب أن أنسى الحرب، لأنها سلبتني أغلى ما لديّ، ابني مازن ويدي اليسرى، وتسبّبت في كسر دائم في قدمي”.
وتسبّبت الحرب السورية التي تبدأ، الأحد، عامها العاشر في مقتل أكثر من 380 ألف شخص، وأدت إلى تشريد وتهجير أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها. كما دمّرت البنى التحتية وأنهكت الاقتصاد وقطاعاته المنتجة.
ورغم أنّ دمشق كانت نسبيا بمنأى عن النزاع وباتت آمنة بشكل كامل منذ العام 2018، إلا أن معاناة قاطنيها لم تنته، وبينهم عبدالقادر الذي تسبب انفجار سيارة مفخخة في العام 2013 في إصابته ومقتل ابنه مازن.
وبينما ينفث دخان سيجارته على قارعة الطريق ويضع كم معطفه البرتقالي، الذي يرتديه دائما، في جيبه الأيسر، يقول “انتهت الحرب في دمشق بالنسبة إلى كثيرين، لكّنها ستبقى معي حتى آخر عمري”.
خلال سنوات الحرب، خسر أبومازن منزله الذي “سوّي بالأرض” في مدينة عربين في الغوطة الشرقية، المنطقة التي شكلت معقلا للفصائل المعارضة قبل أن تنسحب منها إثر سنوات من الحصار والمعارك العنيفة.
من خلال عمله في بيع المشاتل والأزهار، يكافح هذا الرجل لتأمين قوته اليومي ودفع إيجار منزله قرب دمشق، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وموجة غلاء وانهيار قيمة الليرة السورية وانخفاض القدرة الشرائية والشحّ في المواد الأولية والمشتقات النفطية.
في سيارة أجرة يقودها في شوارع دمشق وأزقّتها، يصغي نبيل الشريف يوميا إلى العشرات من القصص التي يرويها الركاب على مسامعه ويجمعها قاسم مشترك.
يقول السائق (63 عاما) الذي يجوب العاصمة منذ أكثر من ثلاثين عاما، “يصعد معي يوميا أكثر من 15 راكبا.. وكل زبون يشكو من الحالة الاقتصادية الصعبة وغلاء المعيشة”.
ويوضح بنبرة هادئة خلال قيادته السيارة في محيط ساحة التحرير شرق دمشق، “أعصابي باردة للغاية، لولا ذلك لما استطعت تحمّل سماع الشكاوى المتتالية للناس”، مضيفا “السيارة باتت مليئة بالهموم وحكايات الناس الموجعة على مدار سنوات الحرب”.
وبعدما كانت القذائف والانفجارات شغل الناس ومحور أحاديثهم اليومية طيلة الأعوام الأولى من الحرب، باتوا اليوم يتحدثون عن “المازوت والغاز والمواد المفقودة من السوق”.
ويضيف “لم يعد الناس يشعرون بالراحة، وتحوّل الخوف من الموت إلى خوف من الفقر”.
وعلى وقع انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار بشكل غير مسبوق، شهدت معظم المواد الغذائية والتموينية، بينها السكر والأرز، فضلا عن اللحوم وحليب الأطفال وغيرها من المنتجات، ارتفاعا قياسيا في أسعارها، في وقت ترزح الفئة الأكبر من السوريين تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة. وتعتمد الحكومة نظام البطاقة الذكية لبيع المحروقات، على خلفية أزمة وقود عرفتها البلاد العام الماضي، وفاقمها تشديد العقوبات الغربية على تصدير النفط إلى سوريا.
وقدّرت الأمم المتحدة في وقت سابق كلفة الدمار في البلاد بنحو 400 مليار دولار.
في ضاحية جرمانا في ريف دمشق، بات حي المزارع يعرف باسم حي النازحين، نظرا لكثرة العائلات التي قدمت إليه تدريجيا هربا من المعارك في مناطق عدة. ومن بين هؤلاء أحمد حمادة (71 عاما) وأفراد عائلته الذين فروا من محافظة حلب شمالا.
في شارع يفتقد إلى البنى التحتية، يقطن أحمد مع زوجته في منزل قيد الإنشاء، خال إلا من فرش ووسائد متواضعة، ويقول “خلال سنوات الحرب نزحنا أكثر من عشر مرات من مكان إلى آخر، وتعبنا من كثرة التنقل”.
متكئا على وسادة في غرفة مظلمة وذات جدران عارية، يتحسر الرجل على الأيام التي كان يملك فيها منزلا كبيرا في ريف حلب، معربا عن قناعته بأن “الحرب تنتهي حين ينتهي نزوحنا ونعود إلى أرضنا ومنازلنا”. تتنّهد زوجته ظريفة (64 عاما) بعدما ينهي كلامهّ، وتقول بينما تجلس قرب مدفأة باردة لم يجدوا حطبا لوضعه فيها “كُتب علينا الشقاء والانتقال، أخذت الحرب عمري (..) تشرّد أبنائي وتهدّم بيتي ولم يبق لنا شيء”.
تسكب ظريفة الشاي الساخن في أكواب تفتقد إلى السكر باهظ الثمن، وتروي كيف تجد صعوبة بالغة في تذكر “أيام ما قبل الحرب”. وتضيف “أشعر أن حياتي كلها حرب وتنقل.. لا أتذكر شيئا من الأيام التي سبقت نزوحنا”.
يتبادل الزوجان اللذان يرتديان الثياب العربية التقليدية نظرات حزينة وهما يجلسان وسط الغرفة الباردة، ويقولان إنهما تبلّغا من صاحب المنزل ضرورة إخلائه في أقرب وقت لرغبته في بيعه. وبغصّة وعينين مغرورقتين بالدموع، تقول بصوت متقطّع “أمنيتي الأخيرة في الحياة أن أعيش في بيت دون أن أضطرّ إلى الخروج منه.. لقد مللت الرحيل”.