جحيم الفقراء يصنع جنة الأثرياء

يعمل الكثيرون في جميع أنحاء العالم لساعات أطول مقابل أجور متدنية في وظائف غير مستقرة وغير آمنة، مع ازدياد التفاوت الاجتماعي والفجوة بين فاحشي الثراء وبقية المجتمع، بينما تدفع المرأة أعلى ثمن للاقتصاد العالمي غير العادل.
نيويورك - باتت الحاجة ملحة إلى تقليص الفجوة بين فاحشي الثراء وبقية المجتمع جذريا وبسرعة في العالم أجمع، حيث يزداد ثراء أغنياء العالم تدريجيا بينما يتدهور وضع فقراء العالم، والمرأة دائما هي أكثر من يدفع ثمن هذا التفاوت الاجتماعي والاقتصادي.
واتسعت الفوارق بين عالمي الفقراء والأغنياء، في زمن الجائحة والحروب والتوترات التي تعصف بالعالم. ومن تداعيات هذه الفوارق غياب الرفاه والرخاء الاقتصادي، وهي إشارات مقلقة لاستقرار المجتمعات.
ففي إحدى اللافتات التي رفعها الفرنسيون خلال مظاهرات “السترات الصفراء” ضد التفاوت الاجتماعي المتزايد في فرنسا “جحيم الفقراء يصنع جنة الأثرياء”، وهي من إشارات التحول الاقتصادي والاجتماعي التي تثير الاحتجاجات والاضطرابات وأحيانا الحروب.
وتقول منظمة أوكسفام العالمية التي تحارب عدم المساواة وتهدف إلى إنهاء الفقر والظلم، في تقرير جديد صدر في الخامس عشر من يناير إن ثروة أغنى خمسة رجال في العالم قد تضاعفت منذ 2020، حتى مع ازدياد فقر خمسة مليارات شخص خلال “عقد من الانقسام”. وارتفعت ثروات أغنى خمسة رجال بنسبة 114 في المئة منذ 2020 ولن يُقضى على الفقر في العالم قبل 229 سنة أخرى.
ويرى البروفيسور روبرت فلودر من جامعة برن للعلوم التطبيقية، أنه عندما تتركز السلع المادية بأيدي عدد قليل من الناس، يقل أيضا الاستهلاك الكلي، ويمكن ملاحظة ذلك في الميراث، والذي غالبا ما يكون من نصيب كبار السن الأغنياء بينما “الأفضل من جهة الاستهلاك لو أن الأموال تذهب إلى جيوب العائلات الشابة التي هي بحاجة إليها فعلا”، وهذا واضح باعتبار أنه من الأولى اقتصاديا أن تدخل تلك الأموال مباشرة دائرة التداول بدلا من أن تبقى مركونة في حساب ثري متقاعد.
الرجال يمتلكون ثروة أكثر من النساء على الصعيد العالمي بما يعادل أكثر من أربعة أضعاف حجم الاقتصاد الأميركي
ونشرت أوكسفام دراسة تزامنا مع انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، وهو تجمع سنوي يشمل أغنى النخب ورجال الأعمال في العالم. وأدرجت أسماء أكبر خمسة مليارديرات وثرواتهم: إيلون ماسك 245.5 مليار دولار، برنارد أرنو وعائلته 191.3 مليار دولار، جيف بيزوس 167.4 مليار دولار، لاري إليسون 145.5 مليار دولار، وارن بافيت 119.2 مليار دولار. ويمتلك هؤلاء ما مجموعه حوالي 869 مليار دولار من الأصول.
وتتوقع أوكسفام أن يشهد العالم أول تريليونير خلال عقد واحد فقط، في حين سيستغرق القضاء على الفقر أكثر من قرنين. وقالت ريبيكا ريدل، مسؤولة السياسة للعدالة الاقتصادية والعرقية في أوكسفام أميركا، لخدمة إنتر برس إن “المرأة تدفع أعلى ثمن للاقتصاد العالمي المحطم”.
وأشارت إلى أن الرجال يمتلكون ثروة أكثر من النساء على الصعيد العالمي بقيمة 105 تريليونات دولار، أي ما يعادل أكثر من أربعة أضعاف حجم الاقتصاد الأميركي، بينما تتلقى النساء 51 سنتا فقط مقابل كل دولار واحد يجنيه الرجال.
وأضافت ريدل، وهي من مؤلفات تقرير أوكسفام حول عدم المساواة وقوة الشركات العالمية، إن “المرأة تتضرر بشكل خاص من السياسات التي تغذي أزمة عدم المساواة، مثل الإعفاءات الضريبية للأغنياء والتخفيضات في الخدمات العامة”. وأشارت إلى أن النساء يشرفن على جل أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، وهي حيوية للحفاظ على المجتمعات والاقتصادات. لكنهن يعانين نتائج التقليل من قيمة مشاركاتهن في مكان العمل.
من الأفضل أن تذهب الأموال إلى جيوب العائلات الشابة لتدخل دائرة التداول بدلا من أن تبقى مركونة في حساب ثري متقاعد
وستستغرق النساء العاملات في القطاع الصحي والاجتماعي 1200 عام حتى يكسبن ما يحققه الرئيس التنفيذي العادي في أكبر 100 شركة في عام واحد فقط.
وتحث أوكسفام على حقبة جديدة من العمل العام بما في ذلك الخدمات العامة وتنظيم الشركات وتفكيك الاحتكارات وسن ضرائب دائمة على الثروة والأرباح الزائدة.
وتكشف الدراسة أن مليارديرا يشغل منصب الرئيس التنفيذي أو يُدرج كمساهم رئيسي في سبع من كل عشر من أكبر الشركات في العالم. وتبلغ قيمة هذه الشركات 10.2 تريليون دولار، أي ما يعادل أكثر من الناتج المحلي الإجمالي الذي تحققه بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية مجتمعة.
وقال المدير التنفيذي المؤقت لمنظمة أوكسفام الدولية أميتاب بيهار “نشهد بدايات عقد من الانقسام، حيث يتحمل المليارات من الأشخاص موجات الصدمة الاقتصادية الناتجة عن الوباء والتضخم والحرب، بينما تزدهر ثروات المليارديرات. ليس هذا التفاوت صدفة بل تضمن طبقة المليارديرات أن تقدم لهم الشركات المزيد من الثروات على حساب أي شخص آخر”.
وأشار إلى أن “قوة الشركات والاحتكارات الجامحة تبقى آلة تعمل على توليد عدم المساواة. فهي توجه ثروات لا نهاية لها إلى أصحابها الأثرياء من خلال الضغط على العمال، والتهرب من الضرائب وخصخصة الدولة وتحفيز انهيار المناخ. ولها بصمة في السلطة، وتقوض ديمقراطياتنا وحقوقنا. لا ينبغي أن تتمتع أي شركة أو فرد بهذا القدر من السلطة على اقتصاداتنا وحياتنا. لا ينبغي أن يمتلك أحد مليار دولار”.
النساء العاملات في القطاع الصحي والاجتماعي ستستغرقن 1200 عام حتى يكسبن ما يحققه الرئيس التنفيذي العادي في أكبر 100 شركة في عام واحد فقط
وتمتلك الدول الغنية في الشمال العالمي 69 في المئة من الثروة العالمية على الرغم من أنها تمثل 21 في المئة فقط من سكان العالم. وهي موطن لـ74 في المئة من ثروة المليارديرات في العالم.
وبحسب الصندوق العالمي للطبيعة فرع سويسرا، “نستهلك في سويسرا الكثير لأننا أغنياء جدا وفقا للمقياس العالمي، وبالتالي فإن ما نستهلكه يزيد من تلوث البيئة ومن ناحية أخرى، فإن العديد من البدائل الصديقة للبيئة في مجالات، كالتغذية والتنقل والطاقة، غالية الثمن وليست في متناول الجميع، وكشفت المقارنة الدولية أن الثروة الزائدة تضرّ بالبيئة، كما توصلت دراسة قام بها باحث من جامعة برن إلى أن ‘توزيعا أكثر تجانسا، للدخل والأصول والمساحات، ليس عدلا وحسب، بل وأيضا وسيلة أفضل وأكثر فاعلية لحماية البيئة’.
وضغط أفراد القطاع الخاص في كل أنحاء العالم بهدف خفض التكلفة، وخلق المزيد من الثغرات وتقليل الشفافية ووضع تدابير أخرى تهدف إلى تمكين الشركات من المساهمة بأقل قدر ممكن في الخزانة العامة”.
وارتفعت ثروة جيف بيزوس البالغة 167.4 مليار دولار بمقدار 32.7 مليار دولار منذ بداية العقد. ورفعت الحكومة الأميركية دعوى قضائية ضد شركة أمازون، التي تشكّل مصدر ثروة بيزوس، لاستخدامها “قوتها الاحتكارية” لرفع الأسعار، وخنق المنافسة مع تراجع الخدمة المقدّمة للمتسوقين.
وقال بيهار إن الاحتكارات تضر بالابتكار وتسحق العمال والشركات الصغيرة”. وأكّد أن العالم لم ينس كيف حرمت احتكارات الأدوية الملايين من الأشخاص من لقاحات كوفيد – 19، وخلقت تمييزا عنصريا في القطاع، بينما أضافت أسماء إلى لائحة المليارديرات.
ويعمل كثيرون في جميع أنحاء العالم لساعات أطول مقابل أجور متدنية في وظائف غير مستقرة وغير آمنة. ولم تستطع رواتب 800 مليون عامل مواكبة التضخم وخسر المتضررون مجتمعين 1.5 تريليون دولار على مدى العامين الماضيين، أي ما يعادل ما يقرب من شهر (25 يوما) من الأجور المفقودة لكل عامل، وفقا لمنظمة أوكسفام.
ويظهر التقرير أن “الحرب على الضرائب” التي شنتها الشركات تسببت في انخفاض معدل الضريبة الفعلي عليها بنحو الثلث في العقود الأخيرة، بينما واصلت خصخصة الخدمات مثل التعليم والمياه.
وقال بيهار “لدينا الأدلة. نحن نعرف التاريخ. يمكن للسلطة العامة كبح جماح قوة الشركات الجامحة وعدم المساواة، وتشكيل السوق لتكون أكثر عدالة ومتحررة من سيطرة المليارديرات. ويجب أن تتدخل الحكومات لتفكيك الاحتكارات، وتمكين العمال، وفرض الضرائب على أرباح الشركات الهائلة، والأهم من ذلك، الاستثمار في عصر جديد من السلع والخدمات العامة”.
وتابع “تقع على عاتق كل شركة مسؤولية التصرف، ولكن عددا قليلا منها يتحمل هذا الحمل. ويجب أن تكثف الحكومات جهودها. توجد إجراءات يمكن للمشرعين أن يتعلموا منها، من سلطات مكافحة الاحتكار الحكومية الأميركية التي رفعت دعوى قضائية ضد أمازون في قضية تاريخية، إلى المفوضية الأوروبية التي تريد أن تفكك غوغل أعمالها الإعلانية عبر الإنترنت، والكفاح التاريخي الذي تخوضه أفريقيا لإعادة تشكيل القواعد الضريبية الدولية”.
ولكن مشكلة زيادة الضرائب على الطبقتين الوسطى والعليا أنها تعني زعزعة نظام مالي واقتصادي واجتماعي تعود الناس عليه. فالطبيب الذي يحصل على دخل مريح من عيادته وعمله في المستشفيات لا يرغب في أن تزداد ضرائبه، وكذلك الأمر بالنسبة للمهندس والمقاول وأصحاب الوظائف العليا في أي اقتصاد. وبما أن تلك الطبقة لها تأثير واسع على أصحاب القرار، والذي يتشكل من تلك النخب، فإن الدول تتجنب رفع ضرائب الدخل وتلجأ بدلا من ذلك إلى رفع الرسوم الجمركية وضرائب المبيعات والرسوم على المشتقات النفطية وغيرها من الرسوم والضرائب غير المباشرة.

ومن المعروف أن ارتفاع ضريبة المبيعات والمشتقات النفطية، على سبيل المثال لا الحصر، يضر بالفقراء أكثر من الأغنياء، حيث إن الضريبة هي نفسها على نفس البنزين أو السكر أو الخدمات التي يشتريها الفقير والغني.
ولتقليص الفجوة بين الأثرياء وبقية المجتمع اقترحت أوكسفام وجوب أن تضمن الحكومات توفير الرعاية الصحية والتعليم للجميع، وأن تستكشف السلع التي يتم تسليمها للجمهور والخيارات العامة في قطاعات تمتد من الطاقة إلى النقل. وتؤكد أن الدولة الديناميكية والفعالة أفضل حصن ضد قوة الشركات المتطرفة.
كما تطالب بكبح جماح قوة الشركات، بطرق تشمل تفكيك الاحتكارات وإضفاء الطابع الديمقراطي على قواعد براءات الاختراع. ويشمل هذا سن تشريعات للأجور المعيشية، ووضع حد أقصى لأجور الرؤساء التنفيذيين، وفرض ضرائب جديدة على فاحشي الثراء والشركات، بما في ذلك ضرائب الثروة الدائمة والأرباح الزائدة. وتقدر منظمة أوكسفام أن فرض ضريبة على الثروة على أصحاب الملايين والمليارديرات في العالم يمكن أن يدر 1.8 تريليون دولار سنويا.
وشددت المنظمة على أهمية إعادة تحديد قواعد قطاع الأعمال، فيجب أن لا تكون الشركات التنافسية والمربحة مقيدة بجشع المساهمين. وذكرت أنّ الشركات المملوكة لأشخاص يعملون بها تعادل عائدات الموظفين بشكل أفضل. وإذا كانت 10 في المئة فقط من الشركات الأميركية مملوكة للموظفين، فقد يعني ذلك مضاعفة حصة الثروة لأفقر نصف سكان الولايات المتحدة، بما في ذلك مضاعفة متوسط ثروة الأسر من غير البيض.
ورغم ذلك هناك من يرى أن التفاوت الاقتصادي لديه إيجابيات، إذ إن عدم المساواة الاقتصادية تحفز الإنتاجية طالما أن هناك فرص عمل، حيث يمكن لثروة البعض أن تحفز الفقير أو الأقل غنى على الاجتهاد أملا في تحقيق عائد أكبر أو زيادة غناه، أو بمعنى آخر: إذا كان الجميع بنفس المستوى من الرفاه، بغض النظر عن الأداء والعمل، فإن حوافز الإنتاجية ستتضاءل وبالتالي يخفت النمو.