"جبيل" اللبنانية أم المدن وحاضنة الإنسان منذ القدم

الاثنين 2014/04/07
ميناء جبيل القديم، شاهد على ازدهار المدينة وإشعاعها

لبنان- من أندر المدن في العالم التي حافظت على شكلها وروحها منذ إنشائها حتى اليوم. وهي المدينة التي تعد من أقدم المدن المأهولة بالبشر في التاريخ. “جبيل” المدينة اللبنانية التي تبعد عن بيروت حوالي 37 كيلومترا، تأسست في البداية كقرية صغيرة للصيادين فوق تل مشرف على البحر، ثم تطورت عبر القرون الطويلة لتصبح المدينة الحاضنة لأكثر من حضارة.

منذ حوالي 7000 سنة، أي في فترة العصر الحجري الحديث، أنشأت جماعات من الصيادين مُستقرا لها على شاطئ المتوسط، فكان هذا المُستقر بمثابة القرية البدائية التي أصبحت في ما بعد مدينة “جبيل”.

وكشفت الحفريات عن بقايا هذه القرية التي تتمثل في أكواخ ذات حجرة واحدة رُصفت أرضيتها ببلاط من الكلس، وقد عُثر في هذه الأكواخ على عدد من الأدوات والأسلحة المعدة للصيد تعود إلى تلك الحقبة.

واستمر نمط العيش هذا أثناء الحقبة التالية، أي في الألف الرابع قبل الميلاد، التي عرف الإنسان فيها طرق استخدام النحاس إلى جانب أدواته الحجرية، وهي الفترة التي يُطلق عليها اسم “العصر الإنيوليتي”. بيد أن الحفريات أظهرت نمطاً جديداً من العادات الجنائزية تمثلت في دفن الموتى مع بعض متاعهم في جرار كبيرة.

1984 ميلادي تم تصنيف "جبيل" تراثا إنسانيا من قبل اليونسكو

ارتقت “جبيل” إلى مصاف المدن (بالمعنى التاريخي والثقافي للمدينة) أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، فأصبح لها شوارعها وساحاتها ومبانيها العامة وأسوارها، فأصبحت بذلك حاضرة (أي مدينة عاصمة، لها شخصيتها الخاصة واستقلالها ووجودها السياسي).

واعتبرت المدينة خلال الألفي سنة الأولى من عمرها، حاضرة الكنعانيين الأساسية على المستويين الديني والسياسي، وتلقت معابدها، ذائعة الصيت في العالم القديم هدايا فاخرة وثمينة من فراعنة مصر، لا زالت تشكّل تحفاً تفاخر بها بعض متاحف العالم، مثل اللوحة الرخامية التي كتب عليها باللغة المسمارية الموجودة حاليا في لندن، أنه في السنة 37 من حكمه جهز نبوخذ نصر جيشا إلى مصر لمواجهة الملك الفرعوني أحمس الثاني فعندما سمع الفرعون رمسيس بذلك جهز جيشا من المصريين وتوجه نحو فينيقية لكن لا تعرف نتائج تلك الحرب لأن النص المسماري غير واضح ومخروم. وقد مرت كل تلك الجيوش على مدينة “جبيل” اللبنانية وخلف فيها المحاربون الكثير من الآثار والعلامات.

وما إن حلت بدايات الألف الثالث قبل الميلاد، حتى شهدت “جبيل” ازدهاراً كبيراً بفضل تجارة الأخشاب التي كانت تصدرها إلى أنحاء المتوسط الشرقي، ولا سيما إلى مصر، حيث كان المصريون يفتقدون الخشب اللازم لبناء سفنهم ومعابدهم ولضرورات طقوسهم الجنائزية.

وكانت “جبيل” بقيادة الكنعانيين تحصل مقابل أخشابها على الأواني والحلي المصرية المصنوعة من الذهب والمرمر، بالإضافة إلى لفائف البردي ونسيج الكتان. ما لبثت فترة الازدهار تلك أن انحسرت في نهايات الألف الثالث قبل الميلاد، فقد تعرّضت “جبيل” إلى الغزو والحريق من قبل بعض القبائل “الأموريّة” (والأموريون هم قبائل غربية سكنت الأرض التي تتوسط بلاد الرافدين وبلاد الشام). وما أن تخلى القادمون الجدد عن بداوتهم واستقروا حتى أعادوا إعمار المدينة كما أعادوا التواصل التجاري مع مصر إلى سابق عهده.

1516 ميلادي أصبحت "جبيل" تابعة للدولة العثمانية

وجدير بالذكر أن مدافن “جبيل” الملكيّة التي أبرزت الحفريات مدى ثرائها تعود بمجملها إلى تلك الفترة، مما يُشير إلى الازدهار الذي حققته المدينة في ظلّ الحكم الأموري. وما أن أشرف الألف الثاني على الانتهاء حتى اجتاحت المتوسط الشرقي جماعات غريبة يطلق عليها المؤرخون اسم “شعوب البحر”.

فاستقرت أعداد منها على سواحل بلاد كنعان الجنوبية، ويبدو أن القادمين الجدد كانوا أساسا ناشرين للمعارف البحريّة والملاحة بين شعوب المنطقة التي أطلق عليها في ما بعد اسم فينيقيا.

أما عن التسمية، فمن الواضح أن لفظة “جبيل” اليوم تحمل نفس النبرات الصوتية لاسمها الكنعاني الفينيقي، فقد عرفها المصريون القدماء باسمها الأصلي محرفاً حسب طريقة لفظهم، فكتبوا اسمها في رسائل تل العمارنة بشكلٍ يؤدّي إلى لفظها “كبني” أو “كِبِن”، أما في النصوص البابلية فكُتِبت “جُبْلا”، وفي تلك الآشورية “جُبْلي” أو “جُبَل”، في الوقت الذي أطلق عليها الإغريق اسم “بيبلوس” لعلاقتها بالورق وبالكتاب. أما في التوراة فوَرَدَ اسمها “جَبْلْ” واسم أهلها “جَبْليين”.

وعاد الصليبيون فيما بعد إلى الجذر الأساسي في الاسم فكتبوه “جِبِلات”. وبالتمعّن في اللفظ الحديث لاسمها “جبيل” الذي قد يكون الأقرب إلى اللفظ الصحيح الأصلي، فقد يكون نتيجة دمج كلمتين كنعانيتين واضحتَي المعنى “جِبْ” أي البيت، و”إيل” أي كبير الآلهة أو الإله الآب، وبذلك فهي تعني بيت الله.

أما الاعتقاد بأن الاسم هو تصغير كلمة جَبَل، أي الجبل الصغير، فلا يبدو أنه قريب من الواقع إذ أن موقعها ليس على جبيل وليس على هضبة، بل على تليْلٍ صغير يفصل بين مجرى ماءٍ شتوي هو مجرى السخَيْنة جنوباً، ومنخفضٍ صغير شمال التل احتضن فيما بعد السوق العتيق الحالي وامتداده حتى الميناء. وبعد الفتح العربي حافظت المدينة على اسمها الأصلي حتى اليوم.

وفي العصر العربي، وتحديدا بُعيد عام 637 للميلاد، كانت “جبيل” قد أصبحت مدينة صغيرة هادئة وقد أخذت أهميتها تتضاءل حتى بداية القرن الثاني عشر عندما سقطت في أيدي الصليبيين عام 1104، وحوّلوها عام 1109 إلى إقطاع وراثي تابع لكونتيّة طرابلس. وفي تلك الفترة أقيمت في جبيل قلعتها المشهورة التي تمّ بناؤها بحجارة ومواد تمّ اقتلاعها من عمائر المدينة العائدة إلى العصور السابقة.

333 ق.م اندلاع معركة أسيوس وسقوط "جبيل" في يد الاسكندر

والفتح العربي الإسلامي كان قد شكّل فعلا حدثا هاما لا يقلّ أهمية وعمقاً عن الذي سبقه بحوالي ألف سنة. فقد أكملت “جبيل” مسارها العادي كأحد الثغور المهمّة المشكّلة لنقطة وصل مع قوى غرب المتوسّط، ولعبت دوراً في العلاقة الجدلية فيما بين شرق المتوسّط المسلم وغربه المسيحي.

ولم تخلُ هذه العلاقة من العنف المعتمَد لحلّ مشكلات الهيمنة والتبعية وتضارب المصالح وإرادة السيطرة وما شابه من الأسباب التي شكّلت محاور العلاقات فيما بين حضارة فتية تريد فرض سيطرتها على حيّز كبير من العالم القديم، وبين حضارة هرِمة ضرب التفسّخ فيها، فراحت تتفتت في انتظار بزوغ قوى جديدة من رحم حالة الانهيار تلك.

وعلى مدى ثلاثة قرون ونيّف ساهمت جبيل في الصراع الدائر بين الامبراطورية العربية الإسلامية الشرقية المتمركزة في دمشق ومن ثمّ في بغداد، وبين الامبراطورية البيزنطية المسيحية المتمركِزة في القسطنطينية، فكانت مع مثيلاتها على شاطئ شرق المتوسّط جبهة قتال وتلاقٍ.

12