ثورة زراعية في بريطانيا

للحرب في أوكرانيا وجه مأساوي لا يقتصر على الضحايا من المدنيين. ارتدادات الغزو الروسي طالت دول العالم، بعيدها وقريبها، وأول تلك الارتدادات ارتفاع سعر النفط والغاز، وثانيها أزمة غذائية عميقة وارتفاع مشطّ بالأسعار.
وبينما تتقلص المساحات المزروعة من الحبوب في دول كثيرة نتيجة للتبدلات المناخية، بلغ حجم الإنتاج الأوكراني من الحبوب (عام 2021) 75 مليون طن، واحتلت الترتيب الثاني بعد الولايات المتحدة في تصدير الحبوب.
وإن وصفت تونس يوما بأنها سلة غلال روما، فإن أوكرانيا هي سلة غلال العالم.
ارتدادات الحرب الأوكرانية أصابت العالم وقد أنهكته جائحة على مدى عامين، وما زالت مستمرة، فرضت خلالها إجراءات أثرت سلبا على مسالك التوزيع، خاصة السلع الغذائية.
رغم ذلك، للحرب في أوكرانيا فضائلها أيضا. وتتجلى تلك الفضائل في أمرين. الأول، أنها أخرجت أوروبا والغرب من حالة الدعة والرفاه، وبينت أن حالة الأمن التي تعيشها تلك الدول وشعوبها ليست مضمونة وعرضة للأزمات. كما أظهرت أن الحرب الباردة لم تنته بسقوط جدار برلين في التاسع من شهر نوفمبر عام 1989، وأن عليها أن تعيد النظر بأمنها القومي.
لم تنظر تلك الدول طويلا، لا وقت لإطالة التفكير. اتخذت مجموعة من الإجراءات كان أولها رفعت ميزانيات التسلح. وأعادت اكتشاف أهمية حلف الناتو من جديد.
◙ على رأس المنتجات التي ستحظى بدعم من الحكومة تأتي المنتجات الزراعية والمأكولات البحرية، أما ما تبقى من أغذية تنتج محليا فسيتم الحفاظ على مستواها الحالي
لا يوجد ما يمنع فلاديمير بوتين من تكرار المغامرة، وغزو بلد آخر، بعد أن اكتشف العجز الأوروبي، واعتماد دول القارة العجوز على الحماية الأميركية.
ما فعله بوتين قد تفعله أيضا الصين؛ بل قد تفعله إيران إذا شعرت أن الأجواء مناسبة للمضي قدما في ابتزاز الغرب، أو المضي قدما في مشروعها النووي.
دول “مارقة” أخرى قد يشجعها ما حدث على تحدي المجتمع الدولي. لذلك فإن الحذر مطلوب، والاستعداد لمواجهة أيّ مغامرة عسكرية تهدد الأمن واجب.
الفضيلة الثانية للحرب في أوكرانيا، أنها نبهت لمدى هشاشة العالم على المستوى الغذائي، وعدم استعداده لمواجهة الأزمات الغذائية.
حتى أيام قليلة كانت أوروبا تظن أن الوفرة التي تعيشها أمر مفروغ منه، لن يعكره أيّ طارئ، إلى أن حدث هذا الطارئ، وتبين للجميع أن الأمن الغذائي مجرد وهم.
أطنان من الأغذية كان مصيرها يوميا مكبات النفايات. وأرفف المخازن مليئة بكل ما لذّ وطاب من أصناف الطعام على مدار العام. اسأل أيّ مواطن أوروبي عن موسم زراعة البندورة (الطماطم) أو الخيار أو المشمش، على سبيل المثال، ستجده من الجاهلين، ما لم يكن مهتما بالزراعة. والسبب بسيط، لم يعد للغلال وللخضار موسم تطرح فيه في الأسواق.
في أيّ يوم من أيام السنة، وفي عزّ البرد، يمكن شراء التين والصبار والتوت. في الماضي كان علينا الانتظار لشهر سبتمبر حتى نستمتع بحبة رمان. لم يعد علينا الآن الانتظار.
هذه الرفاهية أنست شعوب أوروبا الحذر، أصبحت مثل طفل مدلل يحصل دائما على ما يطلبه. الدلال لم يقتصر على الأفراد، بل طال الدول. تكفي مناقصة تنشر في صحيفة لشراء مليون طن من القمح أو أكثر.
مع الوباء ومع الحرب الأوكرانية لم يعد الأمر بهذه البساطة.
المشكلة ليست فقط في تعطل سلاسل التوريد، التي تحول الموارد الطبيعية والمواد الخام والمكونات إلى المنتج النهائي وتسلمه إلى المستهلك، بل بالأسعار الصاروخية التي رافقت ذلك، وجعلت سكان الدول الأوروبية يشكون ارتفاع الأسعار.
إذا كانت الحرب في أوكرانيا فعلت كل هذا، ماذا عن الأزمات المناخية وعن الجفاف والتصحر مستقبلا؟
نعم الأمر مخيف. وشكرا لأوكرانيا لأنها دفعت ثمن الاستفاقة نيابة عن دول العالم.
في خمسينات القرن الماضي، بعد الحرب العالمية الثانية، فاق عدد المزارع التي تربّي الأبقار في بريطانيا 35 ألف مزرعة. اليوم يوجد أقل من 10 آلاف.
كانت أوروبا خارجة من حرب طويلة منهكة، وكانت إرادة الشعوب منصبة على التنمية وإعادة بناء الاقتصاد المنهار. وبأقل من ثلاثة عقود بلغ الازدهار أوجه.
في ثمانينات القرن الماضي كانت الأبقار تحلب، ليهدر الحليب في المزارع، وكانت الحكومة البريطانية تدفع لمربّي الأبقار مقابلا ماليا حتى لا ينتجوا الحليب. وطالما احتجت لندن على باريس لتقديمها الدعم للفلاحين في فرنسا.
أثبتت الحرب الأوكرانية، ومن قبلها جائحة كورونا، أن الأمن الغذائي لم يعد أمرا مفروغا منه. وإن كان بالإمكان مد اليد إلى رفوف المخازن لشراء ما نحتاج إليه، إلا أن الأسعار لم تعد في متناول الجميع، وهو ما دفع بالحكومة البريطانية لطرح أول استراتيجية قومية تتعلق بالأمن الغذائي يوم الاثنين، مركزة على زيادة الإنتاج.
◙ لا يوجد ما يمنع فلاديمير بوتين من تكرار المغامرة، وغزو بلد آخر، بعد أن اكتشف العجز الأوروبي، واعتماد دول القارة العجوز على الحماية الأميركية
فجأة يصبح الأمن الغذائي أهم من مواضيع صحية تتعلق بالبدانة. حتى السكر والملح والدهون التي يشير إليها البريطانيون بالسموم البيضاء، لم تحظ باهتمام حكومة بوريس جونسون ورفضت توصية بفرض ضرائب إضافية على الشركات التي تستخدم هذا المواد في الأغذية المصنعة.
أقرّت الحكومة البريطانية أن الجائحة والغزو الروسي لأوكرانيا وما أحدثاه من أضرار بإمدادات الغذاء ساهما باستفاقتها.
على رأس المنتجات التي ستحظى بدعم من الحكومة تأتي المنتجات الزراعية والمأكولات البحرية، أما ما تبقى من أغذية تنتج محليا فسيتم الحفاظ على مستواها الحالي.
ولأن الحكومة البريطانية تدرك المعوقات التي سببتها التغيرات المناخية، تدرك أيضا مدى أهمية التكنولوجيا للتغلب على هذه العقبات. الكلام النظري تحوّل إلى فعل عملي، وذلك بتخصيص مبلغ 333 مليون دولار لدعم الابتكار في قطاع الزراعة حتى عام 2029.
لا شيء يضمن عدم حصول صدمات مستقبلية في الإمدادات الغذائية. حصل ذلك مع جائحة كورونا، ويحصل اليوم مع الحرب الأوكرانية، وحصل أيضا بفعل الجفاف والصراعات الإقليمية.
لذلك يأمل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، أن تؤمّن الاستراتيجية الجديدة الدعم للمزارعين، فمن خلال استخدام التقنيات الجديدة، كما يقول، “سنزرع ونأكل المزيد من طعامنا ونتيح وظائف في جميع أنحاء البلاد وننمي الاقتصاد، وهذا بدوره سيساعد في نهاية المطاف على تقليل الضغط على الأسعار”.
إن كان هذا هو الحال مع دولة غنية لم تختبر الجفاف الحقيقي بعد، مثل بريطانيا، فماذا عن دول فقيرة مهددة بالجفاف والتصحر والصراعات، كما هو حال الكثير من دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط؟ وماذا بقي لشعوبها كي تستجير به، بعد أن سدت في الوجوه حتى أبواب الهجرة.