ثقافة الالتباس

الثلاثاء 2014/12/16

لم تكن محاضرة عبدالله العروي في الشهر الأخير من سنة 2014، (يوم 7 ديسمبر تحديدا)، في افتتاح الدورة الثامنة من ملتقيات التاريخ، في المكتبة الوطنية بالرباط، عن مفهوم “المواطنة” وعلاقته بمفهومي “المساهمة” و”المجاورة”، بدون دلالة في السياق الحاضن لتلاحق الأحداث الثقافية والسياسية بالمغرب وترابطها؛ فالمؤرخ المغربي المهموم بأسئلة الدولة الوطنية الحديثة، والمقل في تصريحاته لوسائل الإعلام، ما كان ليختار الحديث عن “المواطنة” والشراكة في الدولة الوطنية، وينفي إمكان تحققهما في تجاور مع قيم نقيضة وهادمة من قبيل “الولاء” و”الخسة” و”الخيانة”، دون استحضار لجوهر تلك الازدواجية المتأصلة التي تحكم مصيرنا السياسي وأفقنا الثقافي، والتي تجعل التقليدية والعتاقة، كلها تسير جنبا إلى جنب مع السعي إلى تحديث الممارسة السياسية، عبر صناديق الاقتراع، وتوسيع هامش المشاركة في القرار، وتكريس بنيات تداول السلطة، كما هي متجسدة في الضفة المقابلة من المتوسط.

ففي هذا السنة، تحديدا، افتتح أكبر صرح لاحتضان الإبداع التشكيلي الحديث بالمغرب، والتعريف بمدارسه وأعلامه، وصيانة أهم تحفه وذخائره، هو متحف الفنون المعاصرة بالرباط، الذي قطع سنوات طويلة في رحلة، الإنجاز. بطبيعة الحال كان الهاجس في افتتاحه هو إخراج المؤسسة -في حدّ ذاتها- وما ترمز إليه إلى حيز الوجود، بصرف النظر عن مضمون ما تحتويه، وهل نهضت، حقيقة، بالوظيفة المناطة بها. بدا الأمر شبيها، مرة أخرى، بمعظم البنيات الثقافية الأخرى، التي تجاهد لتكون حديثة وعقلانية في محيط غير حديث وغير عقلاني. بيد أنه في هذه السنة أيضا سيتم التراجع عن تدريس الموسيقى بالمدارس المغربية. وفي النهاية ينتمي متحف الفنون المعاصرة -على علاته- إلى إرادة “المواطنة” و”الدولة الوطنية الحديثة”، وربط “الهوية الجماعية” بالإبداع والثقافة، وليس بالمرجعيات الدينية فقط، بينما ينتمي القرار الثاني إلى سمة “الهشاشة” البنيوية التي تكيف السعي السياسي والمجتمعي إلى المعاصرة.

قبل سنوات نشأ في المغرب حزب سياسي جديد، حظي برعاية استثنائية من السلطة، وكان الرهان عليه قويا ليقدم وصفة مقنعة للرأي العام بصدد تلك التوليفة الغرائبية التي تجمع بين ما يمكن تسميته “أصالة”، في سياق يحوّل دلالاتها بشكل جذري إلى مرادف محصور بين الأسيجة الشائكة للتقليدية والولاء، من جهة، و”المعاصرة” من جهة أخرى (وهي تنحاز لمبادئ المواطنة والحداثة والعقلانية) لكن هذا الرهان سرعان ما أقبرته أمواج الربيع العربي، وأحسسنا لمدة غير وجيزة وكأنما الطبخة فسدت، وأن الحلم القادم لا موطئ فيه لقدم “التلفيقية” وثقافة الالتباس والتوفيق بين الجامعة والجامع، أو بين حفل الولاء ومارسيل خليفة، غير أنه في هذه السنة بالذات، سنة 2014، بدأت تطل علينا من جديد أطياف ذلك الحلم القديم، بالتزامن مع الإخفاقات المتتالية لمشاريع الانتفاضات المنتكسة، وتغوّل طموحات الإسلام السياسي.

ومن مفارقات هذه السنة، وعبث الأقدار فيها أيضا، أن يرحل عن المشهد الثقافي المغربي علمان بارزان جسدا بقوة متاهة “التلفيقية” والتباسات “الأصالة والمعاصرة”، ففي هذه السنة غادرنا “فريد بلكاهية” أحد رواد استحضار التراث في التشكيل المغربي المعاصر، كما غادرنا صاحب “الحرب الحضارية” عالم المستقبليات المهدي المنجرة، وفي الحقيقة إذا كنت أستسيغ بعض استيحاءات المرحوم “بلكاهية”، لا أخفي تبرّمي الشديد بتلك النزعة الشعبوية التي اكتنفت خطابات “المنجرة”، فضلا عن عجزي عن استيعاب تلك التوفيقية الخاصة بين “إسلاموية” ضيقة الأفق، ودونما امتداد سياسي، وبين طموحه إلى تمثل التقدم العلمي في شتى تحققاته، كان يمثل لي نموذجا آخر للأبوية المستحدثة التي حدثنا عنها هشام شرابي، حيث يضحى الانتماء إلى العصر والتلفع بقيمه قرين تقليدية متأصلة في الروح والوجدان.


ناقد من المغرب

15