تونس تخوض معارك الإرهاب بحضور الجمهور

مرّت تونس في الأسبوعين الأخيرين، بفترات صعبة وهي تستقبل في نفس الوقت موسما سياحيا وآخر انتخابيا، بعد إقدام بعض “الذئاب المنفردة” الداعشية على تنفيذ تفجيرات وسط العاصمة تونس كانت تستهدف بالتحديد دوريات الأمن ورجال الشرطة. لكن رغم دقّة المرحلة وحساسيتها، فإن هذه المحاولات الإرهابية الجديدة واليائسة تُمكّن المطّلع على حيثياتها عن كثب من الخروج بالعديد من الاستخلاصات، يبقى من أهمها ذلك الحضور اللّافت للتونسيين في حلبات المعارك، أولا لمساندة القوات الأمنية والرفع من معنوياتها وثانيا لتوجيه رسائل مفادها أنه لا وجود لحواضن شعبية للإرهاب والإرهابيين.
تونس – إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بدّ أن يستجيب القدر، ولا بدّ للّيل أن ينجلي، ولا بدّ للقيد أن ينكسر… هكذا ردّدت بعض الجموع التونسية وتغنّت بنشيدها الوطني وهي تحضر وتواكب عن قصد ومن دون خوف العملية الأمنية الأخيرة التي جدّت ليل الثلاثاء في منطقة حي الانطلاقة بضواحي العاصمة تونس.
انتهت العملية الأمنية بالقضاء على أحد أخطر الإرهابيين المدعو أيمن السميري، الذي لجأ إلى تفجير نفسه بواسطة حزام ناسف بعدما تفطّنت القوات الأمنية لمخططاته المزعزعة لاستقرار البلاد، وبعد سويعات قليلة من إصدار وزارة الداخلية بيانات تضمّنت صورا للإرهابي المذكور داعية كل من يعثر أو يتعرّف عليه إبلاغ الأجهزة الأمنية.
نجاح أمني جديد يأتي أيضا بعد أيام قليلة من فشل ذئبين منفردين في تنفيذ مخططاتهما الداعشية المستهدفة لدوريات الأمن بعدما فجّرا نفسيهما في كل من “شارع ديغول” وكذلك على مقربة من وحدة “مكافحة الإرهاب بالقرجاني” التي تبعد بضعة أميال عن القلب النابض للعاصمة؛ شارع الحبيب بورقيبة.
كثيرة هي الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها عقب هذه العمليات الإرهابية المتتالية التي حاولت عبرها الخلايا النائمة إثبات وجود تنظيم داعش المتطرف في البلاد بعد أيام قليلة ممّا يسميه الدواعش إحياء ذكرى إعلان “دولة الخلافة”، الذي كان بتاريخ 29 يونيو 2014.
التونسيون يواجهون التفجيرات الإرهابية برفع شعار تونس أرض لن تكون أبدا مرتعا للإرهاب وللإرهابيين
لكن رغم قصدية التوقيت الذي اختاره منفذو الهجمات الانتحارية التي تأتي أولا بالتزامن مع بداية الموسم السياحي، وكذلك قبيل الانتخابات التي ستجرى بعد أشهر قليلة في محاولة متجدّدة لزعزعة استقرار البلاد وإبقائها في حالة فوضى، فإن ما أظهره التونسيون خلال تفاعلهم مع هذه الأحداث يثبت أن أرض تونس لن تكون أبدا مرتعا للإرهاب وللإرهابيين، ولن تكون بها حواضن شعبية يتغذى منها التنظيم المتطرف.
مباشرة، عقب سماع دوي الانفجار الذي هزّ منطقة حي الانطلاقة، وبعدما فجّر الإرهابي أيمن السميري نفسه خلال مطاردته من قبل القوات الأمنية، لم يصل مخططو هذه الهجمات إلى مقاصدهم الهادفة أساسا إلى إخافة التونسيين ودفعهم إلى البقاء في منازلهم، حيث تجنّد سكان حي الانطلاقة لمواكبة الحدث على عين المكان، مردّدين شعارات ضد الإرهاب والإرهابيين ومعلنين في الوقت ذاته عن تباهيهم بالنجاحات التي تحقّقها القوات الأمنية.
هذا الملمـح، ليس بالجديد عن تونس ولا عن شعبها، ففي كل مرّة يتم فيها تنفيذ هجمات إرهابية وسط المدن أي بعيدا عن جحور ومخابئ الدواعش في المرتفعات والجبال بغرب شمال البلاد، إلا وكانت النتيجة واحدة وهي وحدة صف التونسيين برسائلهم النابذة للمتطرفين وهو أفضل ردّ على الجماعات الإرهابية المتربّصة بأمن البلاد.
وبالطريقة نفسها والسيناريو ذاته تقريبا، لم يتوان التونسيون عقب التفجيرات التي هزّت وسط العاصمة قبل أسبوع عن الخروج إلى شارع الحبيب بورقيبة ومواصلة الحياة بشكل عادي غير مبال لا بالإرهاب ولا بالإرهابيين ولا بأهدافهم العدمية والرافضة للحياة.
مثل هذه الاستخلاصات، لا تتطلب اجتهادا كبيرا أو تفكيرا عميقا، فالجماعات الإرهابية المتخبّطة في السنوات الأخيرة في خسائر بالجملة خلال خوضها معارك غير مكشوفة مع الأجهزة العسكرية والأمنية التونسية، لم تستطع إلى حدّ اليوم هضم أو استيعاب كل تلك الرسائل التي أبرقها لهم التونسيون خاصة خلال ما سُمّي بملحمة 7 مارس 2017 في مدينة بنقردان الحدودية مع ليبيا بعدما فشل الدواعش في ما خطّطوا له من محاولات للاستيلاء على بعض المنشآت الحيوية كالثكنات العسكرية ومراكز الأمن.
في تلك الملحمة التي قال عنها الخبراء إنها بداية النهاية لتنظيم الدولة الإسلامية الذي سقطت أهم معاقله في ما بعد تباعا بسوريا والعراق، قدّم أبناء منطقة بنقردان، دروسا في الوطنية ساهمت في كسر شوكة تنظيم داعش الذي خال واعتقد أن له حاضنة شعبية ستحمي ظهره، لكنه اصطدم بتجنّد سكان المنطقة الحدودية للذود عن تراب وطنهم عبر مشاركتهم تقريبا في كل الحملات العسكرية والأمنية المتعقّبة والملاحقة للدواعش الفارين من ساحة المعركة آنذاك.
لكن، هذه النجاحات الأمنية التي عادة ما تكون في تونس مرفوقة بحضور الجمهور أي السند الشعبي في قلب ساحة المعركة، تطرح أيضا العديد من الاستنتاجات الأخرى خاصة حول مأتى هذه الذئاب المنفردة ومن يقودها ويخطط لها ويوجهها بعدما حقّقت الأجهزة الأمنية نجاحات هامة في تجفيف منابع الإرهاب بالقضاء على أذرعه إما في مواقع التواصل الاجتماعي وإما في المساجد ودور العبادة.
رغم أن آخر الدراسات والمقاربات المتخصصة في تقديم آخر استراتيجيات الجماعات الإرهابية المسلّحة، تشير إلى أن الذئاب المنفردة باتت تخطط وتنفذ هجماتها الانتحارية بمنطق ما يُسمى “الجهاد دون قيادة” بعد مقتل القيادات المؤثرة، فإن المعطيات المؤكّدة حول الإرهابي أيمن السميري وهو من مواليد عام 1996 تشير إلى أنه هو من قاد بنفسه أيضا عمليتي “شارل ديغول” و”القرجاني”.
والأكثر من ذلك فإن التسريبات الأمنية تشدد على أن السميري انضمّ إلى تنظيم الدولة الإسلامية بعدما تمّ استقطابه عبر شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك” وعلى أن مهمته الأساسية كانت مقيّدة بنشر أفكار التنظيم ومراقبة عدد صفحات التواصل الاجتماعي لشخصيات سياسية وإعلامية وثقافية بارزة.
النتيجة الأخرى التي يمكن الخروج بها أيضا بعد طي صفحة خطورة الإرهابي أيمن السميري، هي عودة الحديث عن توظيف واستغلال الخلايا النائمة التابعة لتنظيم داعش لدور العبادة والمساجد التي كانت في السنوات الأولى من ثورة يناير 2011 وتحديدا في حكم “الترويكا” الذي قادته حركة النهضة الإسلامية مرتعا للجماعات التكفيرية والداعشية وعناصر تنظيم أنصار الشريعة في تلك الفترة.
هذا الجدل المتجدّد حول المساجد، يطفو على السطح مجدّدا بعدما أكّدت السلطات في السنوات الأخيرة أنها سيطرت على كل المساجد بصفة شبه تامة وأنها أنقذتها من قبضة الجماعات السلفية والتكفيرية، لكن الوحدات الأمنية ذكرت بعد سويعات فقط من القضاء على الإرهابي أيمن السميري أنها اقتحمت مسجد الغفران بمنطقة حي الانطلاقة وأنها عثرت به على كمية هامة من المواد المتفجرة.
بتوفّر كل هذه العوامل والحيثيات المرافقة للعمليات الإرهابية الأخيرة في تونس، تتراكم الاستنتاجات ذات الأبعاد المتعدّدة، فالأولى حاملة لرسائل حُبلى بالمكاسب التي يمكن البناء عليها والمزيد من تعزيزها في ظلّ اتحّاد التونسيين في صف واحد لمقاومة الإرهاب والتطرف والقضاء على كل بؤره في البلاد.
أما الاستخلاصات الثانية، فهي تستدعي وجوبا على الدولة وتحديدا على القائمين على إعداد استراتجيات مكافحة الإرهاب تعديل ومراجعة السياسات المتعلّقة بتتبّع ومراقبة منصات الاستقطاب الداعشي سواء كان ذلك على صفحات التواصل الاجتماعي أو بإعادة النظر في كيفية التعاطي مع ملف المساجد المثير للجدل وذلك عبر تكثيف مراقبتها بشكل دوري وخاصة تتبّع خطابات الأئمة التي ما زالت غير متّسقة بصفة كاملة مع الخطاب الرسمي للدولة المدنية النابذة للتطرّف، وذلك بإقدام بعضهم وفي مناطق مختلفة من البلاد على فتاوى التكفير والتحريم وحتى التحريض على القتل، خاصة عند التعاطي مع ملفات شائكة كتلك المتعلقة بالديمقراطية والحريات الفردية والعامة.