تونسي آثر صناعة الأجداد على مواصلة دراسة الطب

صناعة الشاشية تتطلب الكثير من الشغف والصبر والمهارة والقدرة على التلقي والتعلم.
الخميس 2024/04/04
حرفة الأجداد

تخلى الستيني رياض بن يوسف عن دراسة الطب ليتعلق بمهنة الأجداد وهي صناعة الشاشية التونسية التي تتطلب الكثير من الشغف والصبر والمهارة والقدرة على التلقي والتعلم، هدفه ليس فقط تجاريا ربحيا بل خلق مواطن شغل للشباب والنساء، والنهوض بهذه الحرفة التي يهيم بها. نجح بن يوسف بفضل موهبته ومثابرته في تكوين مؤسسته الخاصة “الدار الأفريقية للشاشية”.

تونس - في أحد دكاكين نهج سيدي بن عروس بالمدينة العتيقة استقبلني ببشاشة ماسكا شاشية يخيطها بمهارة وسرعة فائقتين ومتوسطا دكانه، الذي ثبّتت على جدرانه رفوف رصفت عليها شواشين بألوان وأشكال مختلفة.

والشاشية هي قبعة تقليدية يلبسها الرجال في تونس منذ قرون، وتتعدد أصنافها وأحجامها، ومثلت حتى وقت قريب قيمة تراثية وفنية وتاريخية في اللباس التونسي الأصيل.

تخلى رياض بن يوسف عن مواصلة دراسة الطب لأجل “عشقه الكبير للشاشية، التي استهوته منذ نعومة أظافره وهو لا يزال طفلا صغيرا يلهو في أزقة المدينة وبين دكاكين سوق الشواشين، والأسواق تنسب إلى طبيعة نشاط حرفييها في المدينة العتيقة.

“أنا أصيل عاصمة الأغالبة ترعرعت في كنف أسرة توارثت هذه الصنعة جيلا بعد جيل وتتلمذت على أبي وعمي، الذي ورثت عنه هذا الدكان، حبي الكبير لهذه الصنعة قادني إلى ترك دراسة الطب ودخول عالم صناعة الشاشية منذ تسعينات القرن الماضي… ولست نادما”.

الشاشية قبعة تقليدية يلبسها الرجال في تونس منذ قرون، وتتعدد صنوفها وأحجامها، ومثلت حتى وقت قريب قيمة تراثية وفنية
الشاشية قبعة تقليدية يلبسها الرجال في تونس منذ قرون، وتتعدد صنوفها وأحجامها، ومثلت حتى وقت قريب قيمة تراثية وفنية

وتابع بن يوسف “لو عاد بي الزمن لاخترت الشاشية مجددا”، وأضاف “هدفي ليس فقط تجاريا ربحيا بل هدفي خلق مواطن شغل للشباب والنساء، خاصة، والنهوض بهذه الحرفة التي أهيم بها عشقا”.

 نجح بن يوسف بفضل موهبته ومثابرته في تكوين مؤسسته الخاصة “الدار الأفريقية للشاشية” المتخصصة في صناعة الشاشية والموجهة بنسبة 90 في المئة نحو السوق الخارجية، وأساسا نحو دول غرب أفريقيا على غرار نيجيريا والنيجر والكاميرون والغابون وبوركينا فاسو، التي تشهد طلبا كبيرا على الشاشية التونسية.

ويريد النفاذ إلى أسواق جديدة، وعن ذلك يقول “أطمح إلى دخول السوق الآسيوية في أفق سنة 2025 لكن السوق الأوروبية ليست من أهدافي حاليا، لأن الإنتاج لا يتيح ذلك”. وبالنسبة إلى بن يوسف فإن صناعة الشاشية تتطلب الكثير من الشغف والصبر والمهارة والقدرة على التلقي والتعلم “والتعويل على الذات وعلى إمكانياتنا الخاصة، أساسا، عبر اعتماد التكوين المستمر”.

وقال “تنظم مؤسستي دورات تكوينية بالتعاون مع الديوان الوطني للصناعات التقليدية وبتمويل من برنامج التعاون الدولي التونسي – السويسري، وقد قمنا إلى حد الآن بتكوين 400 امرأة ونخطط لتكوين 1500 امرأة أخرى”.

وأضاف “نركز كثيرا على فئة الشباب ونعمل على استقطابهم نحو هذه الحرفة العريقة بسبب نقص اليد العاملة على مستوى مختلف سلاسل الإنتاج… من الضروري إرساء أجواء ملائمة للعمل بين العمال وضمان ظروف النجاح وتحسين الإنتاج على مستوى الجودة والكمية والتعويل على الذات وعدم انتظار مساعدة الدولة”.

واعتبر أن مشكلة قطاع الصناعات التقليدية يتمثل أساسا في كلفة المواد الأولية الباهظة، “وهو قطاع مربح إذا فهمنا كيفية الاستثمار فيه، لكنه حاليا في حالة موت سريري في ظل غياب إستراتيجية واضحة لتطويره والترويج له، بسبب السياسة الاتصالية الضعيفة للدولة، إضافة إلى أنه قطاع موسمي لا ينشط طوال السنة”. ويعتبر بن يوسف أن دور الدولة يقتصر على توفير بعض الامتيازات للحرفيين مثل الامتيازات الجبائية والتكوين والقروض.

الشاشية متجذرة في هوية التونسيين
الشاشية متجذرة في هوية التونسيين

واقتحم بن يوسف أيضا مجال الاقتصاد الاجتماعي التضامني ويقوم بتشغيل نساء في مواطنهن الأصلية بكل من غزالة وماطر ولواتة من محافظة بنزرت وغيرها من المناطق، التي لا تتوفر فيها صناعات معملية وتعتمد فقط على الصناعات التقليدية وهو بذلك يسهم في خلق مواطن شغل ويساعد النساء على تطوير مواردهن المالية.

وأشار إلى أن النسوة يخضعن لبرنامج تكويني يتوج بالحصول على شهادة كفاءة مهنية تمكنهن من التسجيل في السجل الوطني للحرفيين، ما يسمح لهن في مرحلة تالية ببعث مشاريعهن الخاصة في مقر إقامتهن.

ورغم بلوغه العقد السادس لا يزال رياض بن يوسف يحتفظ بروح الشباب والطموح والسعي نحو تحقيق أحلامه؛ يسطر أهدافه بدقة ويتجه مباشرة نحو تنفيذها.

وقال بن يوسف “أحلم بأشياء كثيرة… أحلم بالوصول إلى أسواق جديدة وإحداث ورشة تكون موجهة للسياح تسمح بمواكبة كل مراحل صنع الشاشية، ولِمَ لا إنشاء مسلك سياحي خاص بالحرفة، من أجل تثمين هذه الحرفة التي قدمت مع المورسكيين منذ القرن الخامس عشر لتصبح أحد مقومات الهوية التونسية”.

تعلّم بن يوسف الحرفة من عائلته التي امتهن أفرادها صناعة الشاشية وتوارثوها في السوق العتيقة ذاتها. وهو لا يرى أنّها تختلف عن الطب في ضرورة أن يكون منفذها بارعاً ويجيد العمل الدقيق. ويشير إلى أنّه يُصدّر كميات كبيرة من الشواشين التي يصنعها إلى دول عدة، لاسيما ليبيا التي يستعمل مواطنوها قبعة الصوف التي تصنع في تونس، لكن لون القبعات التي تصدّر إلي ليبيا أسود، وتختلف في الشكل.

ويذكر بن يوسف أنّ عائلته، خصوصا والده، رفضت في البداية فكرة أن يترك دراسته الجامعية، لاسيما أنّه يدرس الطب، لكنّه أصرّ على العمل في هذه الحرفة والتواجد في السوق القديمة التي تستقبل المئات من الزوار والسياح يومياً. ويقول “لم أندم على ترك دراسة الطب والالتحاق بعمل قد يتأثر سلباً بظروف وأزمات اقتصادية وتراجع عدد السياح”.

ويشدد على أن “هذه الحرفة لن تموت في تونس طالما تُعتبر من الموروثات في مناطق عدة. وهي في كل الأحوال قبعة تقي رأس الفقير والغني، وليست حكراً على أحد، وأسعارها التي تتراوح بين 4 و10 دولارات في متناول الجميع، رغم تراجع استهلاكها بسبب تخلي التونسيين عن اللباس التقليدي، لكنها تستعمل في المناسبات والأعراس”.

حضور لافت للأنظار
حضور لافت للأنظار

ورغم انتشار الشاشية الصينية المُقلّدة في بعض الأسواق لا يهتم التونسيون إلا بشراء الشاشية التي تصنعها أيد محلية لأنّها تصنع من صوف طبيعي، وتستهلك لسنوات من دون أن يتغيّر لونها أو شكلها أو ترتخي خيوط نسيجها. وفي الأساس تبيعها المحلات مباشرة في غالبية الأسواق العتيقة بالمدن، وأشهرها سوق المدينة العتيقة في العاصمة قرب جامع الزيتونة. وهي تستهوي السياح الأجانب، علماً أنه يمكن تمييزها جيداً عن تلك المستوردة من الصين، التي لا تصنع من صوف طبيعي ويختلف شكلها عن تلك اليدوية. ويقول بن يوسف “أثّرت عدة منتجات مقلّدة على الصناعات التقليدية، لكن صناعة الشاشية صامدة بسبب تمسك بعض الشبان بها، والإقبال عليها للحفاظ على الموروث التقليدي”.

وتتنوع صنوف الشاشية التونسية، أو قبعة الرأس الشهيرة، عبر العالم إلى “ساقسلي” و”كتافي” و”عريضي” و”مجيدي” وغيرها. وتتميز الشاشية التونسية بلونها الأحمر القاني الذي يزين لباس نسائها ورجالها.

ومنذ سنوات باتت الشاشية جزءا من إكسسوارات التونسيات اليومية ببساطتها وصوفها الجيّد وزينتها المستحدثة مختلفة الألوان والأشكال.

وبدأ تاريخ الشاشية في تونس مع حلول المورسكيين الفارين خصوصا من محاكم تفتيش الملك الإسباني فيليب الأول، ملك قشتالة (1478 – 1506 ميلادية) وإقامتهم بمنطقة تستور من محافظة باجة، عند هضبة سهل مجردة الخصب.

وبإدخالهم صناعة الشاشية إلى أرض أفريقية (اسم تونس القديم) أدخل أهل قشتالة وغرناطة الكثير من الألفاظ المستعملة إلى اليوم في حرفة صناعة الشاشية. وتخضع مراحل صنع الشّاشية في تونس لنظام دقيق. ويشرف “أمين الشواشين”، وهو رئيس الجمعيّة التي تضم صناع الشاشية، على تطبيق قواعد تصنيعها المرسومة بصرامة شديدة.

وقد مثلت صناعة الشّاشية خلال القرنين الـ18 والـ19 إحدى دعائم الاقتصاد التونسي، فقد نجحت في غزو الأسواق العالمية عبر أوروبا وأفريقيا وبعض البلدان الآسيوية.

ويعود صيت الشاشية التونسية إلى جودتها وخصوصيّة عملية تصنيعها التي لا تتوفّر في أي من أغطية الرأس الأخرى. كذلك اعتبر صانعو الشاشية أو “الشوّاشون” من أعيان البلاد، باعتبار ما تدرّه عليهم حرفتهم من مداخيل. وكان أمين الشواشين يعتبر أحد “أهل الحلّ والعقد” وأحد مستشاري أصحاب السّلطة السياسية في تونس.

16