توقيت سياسي خاطئ لإثارة قضية تمويلات الجمعيات الأهلية في مصر

بعد تحقيق اختراقات في المجال الحقوقي والاقتصادي بمساعدة الجمعيات الأهلية، تصاعدت من داخل البرلمان المصري أصوات مطالبة بتعديل قانون الجمعيات وإعادة النظر في الإجراءات الرقابية عليها بناء على اتهامات سابقة لتلك الجمعيات بالتبرع لجهات غير مشروعة وتهديدها للأمن القومي. وفيما يسير النظام المصري نحو المزيد من ضمان الحقوق والحريات يناقض البرلمان خطط الحكومة ويهدد بتقويضها.
القاهرة - بعثت نقاشات حادة لنواب في مجلس الشيوخ المصري حول قضية تمويلات الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني بإشارات سلبية، حيث جاءت في توقيت يتناقض مع أجواء انفتاح سياسي يدعمه الرئيس عبدالفتاح السيسي عقب إعلانه عن إطلاق حوار سياسي شامل.
وفي الوقت الذي أطلقت فيه الدولة استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان وأعلنت فيه أن عام 2022 عام للمجتمع المدني بدت خطوة مجلس الشيوخ كأنها تغرد خارج السرب.
وحملت تعليقات النواب، وأغلبهم من المحسوبين على الحكومة، في جلسة نقاش عقدها مجلس الشيوخ، العديد من الاتهامات لجمعيات أهلية بتوجيه التمويلات والتبرعات إلى مسارات غير مشروعة، وأعادوا التذكير بتورّطها في جلب أموال جرى توظيفها لتهديد الأمن القومي، وطالبوا الحكومة بإعادة النظر في إجراءاتها الرقابية.
وأضحت منظمات المجتمع المدني تعمل وفقًا لقانون “الجمعيات والمؤسسات الأهلية”، ودخل حيّز التطبيق منذ حوالي عام بعد إقرار لائحته التنفيذية، ويتضمن خطوات منظمة لاستقبال التمويلات ورقابة الحكومة عليها.

أيمن عقيل: مجلس الشيوخ يسعى للرقابة على الجمعيات الأهلية
غير أن النقاشات التي أثارها نواب بمجلس الشيوخ تشير إلى إمكانية إدخال تعديلات على القانون وفتح الباب أمام أزمات أخرى بعد أن حظي بتوافق كافة الأطراف.
واستهدف نحو 20 نائبًا تقدموا بطلب النقاش حول تمويلات الجمعيات الأهلية مراجعة إجراءات رقابة الحكومة على التبرعات التي تتلقّاها منظمات المجتمع المدني ومدى ربطها بأوجه الصرف على الحالات المستحقة، بعد أن أظهرت الإحصاءات تضاعفًا في أرقام الأموال الواردة إليها من العديد من الجهات منذ إقرار القانون الجديد.
وحسب الطلب الذي تقدم به النواب فإن حجم التمويلات الواردة إلى الجمعيات والمؤسسات الأهلية تزايد منذ صدور اللائحة التنفيذية للقانون في الفترة من يناير العام 2021 وحتى أكتوبر من العام ذاته.
وبلغت خلال تلك الفترة نحو 7 مليارات جنيه ( 400 مليون دولار)، ومن المنتظر أن تقدم الحكومة رداً حول مصارف تلك الأموال وكيفية استغلالها في جلسة مقبلة.
وجاءت خطوة المؤسسة التشريعية في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة كسب ثقة الجمعيات الأهلية ودفعها نحو إعادة تقنين أوضاعها وفقًا للقانون الجديد ومنحتها مهلة لمدة عام آخر، تنتهي في يناير المقبل لتقديم أوراقها إلى الجهات المعنية، بعد عزوف أكثر من نصف الجمعيات المسجلة عن ترتيب أوضاعها، إذ ينظر حقوقيون إلى ما تسميه الحكومة بأنه “إطار تنظيمي” للعمل على أنه تضييق مباشر.
وبدت خطوات دوائر محسوبة على الحكومة داخل مجلس الشيوخ متناقضة مع توجهات النظام المصري، في ظل مساع لتحقيق انفراجات سياسية بدأت مع إطلاق سراح عدد من المحبوسين الشباب قبل أيام.
ومن المتوقّع أن تأخذ خطوات أخرى في هذا الإطار على مستوى تدشين حوار شامل مع القوى السياسية والمجتمع المدني، أو على مستوى تحسين الأوضاع الحقوقية.
وتعيد نقاشات الشيوخ التذكير بقضية تمويل المنظمات الشهيرة في العام 2011 وجرى فيها توجيه تهم لمنظمات حقوقية بصرف أموالها بعيداً عن المسارات الشرعية والحصول على تمويلات لخدمة مشاريع سياسية ويمكن إغلاق الملف بشكل كامل الفترة المقبلة عقب الإعلان عن براءة غالبية المنظمات والشخصيات المتهمة.
الجمعيات الأهلية المصرية تشكل طرفاً مهمًا يمكن الوثوق به للمساعدة على تجاوز بعض أزمات الغلاء والمشكلات الاقتصادية
وقال رئيس مؤسسة ماعت للسلام (حقوقية) أيمن عقيل إن القانون الجديد يضع ضوابط واضحة تضمن سهولة الحصول على التمويلات ويمنح رقابة كاملة للدولة على كل مشروع أو منحة، والبرلمان هو من أقرّ القانون وحظي بتوافق حول مواده، وليس من المنطقي الحديث مرة أخرى عن ثغرات لتوجيه التمويلات في غير مساراتها.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن البرلمان يمارس دوره الرقابي على الحكومة لكن في الوقت ذاته ما جاء في الجلسة الأخيرة يشي بأنه يسعى للرقابة على الجمعيات الأهلية، وذلك من مهام السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية.
ويتنافى هذا التوجه مع حالة التناغم التي ظهرت مؤخرا بين لجان حقوق الإنسان في مجلسي النواب والشيوخ وبين المنظمات الحقوقية التي حضرت غالبية النقاشات المرتبطة بأوضاع حقوق الإنسان والعمل الأهلي في مصر.
وأشار عقيل إلى أن مجلس الشيوخ يظهر كمن يتصرف بمفرده، لأن الجهات الحكومية تبدي مواقف مغايرة تجاه المنظمات الحقوقية، وثمة رغبة في التعامل مع الانتقادات الدولية بتحسين السجل الحقوقي.
وتنخرط الجمعيات الأهلية في الشراكة مع الحكومة في مشروعات تنموية عديدة وهناك 3500 جمعية تعمل ضمن المبادرة الرئاسية “حياة كريمة”، ومساع دؤوبة لإعادة بناء الثقة بين الدولة المصرية وجهات دولية مانحة.
ويؤكد العديد من الحقوقيين أن منظمات المجتمع المدني لعبت دوراً مهمًا في التسويق لقانون الجمعيات الأهلية على المستوى الدولي، وانعكس ذلك على المؤشرات الإيجابية بتحسن الأوضاع التي جاءت من بعض الجهات.

ومن المفترض أن تشهد الفترة المقبلة المزيد من الترويج للقانون المصري عبر تلك المنظمات، والتي تعد شريكا رئيسيا في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وليس من المنطقي التشكيك فيها من دون وقائع مثبتة.
ولدى أيمن عقيل قناعة بأن التراجع عن حالة التفاهم والتلاقي بين جهات حكومية والمنظمات الحقوقية يؤدي إلى العودة إلى نقطة الصفر، وفي تلك الحالة تخسر الحكومة ذراعًا تساندها أمام هجمات ممنهجة تمارسها منظمات حقوقية دولية.
علاوة على أن الجمعيات الأهلية المصرية تشكل طرفاً مهمًا يمكن الوثوق به للمساعدة على تجاوز بعض أزمات الغلاء والمشكلات الاقتصادية المتفاقمة في القرى والنجوع.
وعبرت ردود وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج عن رغبة حثيثة في استمرار إجراءات بناء الثقة مع الجمعيات الأهلية، وأكدت في جلسة عامة لمجلس الشيوخ أن الجمعيات الأهلية تقوم بدور “ريادي وتنموي مهمّ، ولا تسمح بأيّ مخالفات وتم تعديل القوانين الخاصة بذلك من أجل المزيد من الشفافية والمتابعة لهذه المؤسسات، وأن المبالغ التي حصلت عليها الجمعيات قليلة والمستهدف أضعافها”.
وتتطلب مساعي الدولة المصرية لتدشين حوار سياسي شامل قدرا من التناغم بين المؤسسات المختلفة، ويكون هناك توجه عام متوافق عليه، وهذه الوقائع وإن لم تسفر عن شيء فهي تأتي في التوقيت الخاطئ، وتدعم استمرار الفجوة بين الحكومة والمجتمع المدني والقوى السياسية، ومن ثم لا يحقق الحوار المنشود أهدافه المرجوة.