توظيف سياسي متبادل لفقدان التواصل بين السيسي ونتنياهو

ماذا حمل رفض الرئيس المصري الحديث مع رئيس الحكومة الإسرائيلية.
الأحد 2024/01/28
غضب شعبي ورسمي مصري ضد الحرب

هل رفض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي استقبال اتصال هاتفي من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما روجت لذلك وسائل إعلام إسرائيلية. إذا حصل هذا، فهو يعني أن السيسي بات ينظر إلى نتنياهو على أنه قد انتهى سياسيا، وأن مصر تترقب قيادة سياسية جديدة للتواصل معها.

لا تزال أصداء ما نشرته وسائل إعلام إسرائيلية قبل أيام بشأن رفض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي استقبال اتصال هاتفي من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تحظى باهتمام في القاهرة وتل أبيب، لأن هذه من المرات النادرة التي يتم الكشف فيها عن رفض رئيس دولة الحديث مع مسؤول رفيع في دولة أخرى، وعند التصريح بذلك تكون هناك أزمة، ويريد الطرف الذي أفشى الخبر الاستثمار فيها.

ولم تعلق الرئاسة المصرية على هذه المعلومات، شبه الرسمية، لكن وسائل إعلام محلية أبرزت الخبر وأعادت تكراره، خاصة أنه جاء في سياق توتر ظاهر خرجت فيه القاهرة عن لياقتها الدبلوماسية ووجهت انتقادات حادة للقيادة الإسرائيلية، ردا على اتهامات لها حول منع دخول المساعدات من معبر رفح المصري إلى قطاع غزة، واستمرار وجود أنفاق لتهريب الأسلحة من سيناء إلى غزة، فضلا على تحركات مريبة ومنفردة تقوم بها قوات الاحتلال في ممر فيلادلفيا رفضتها القاهرة.

فسر امتناع السيسي عن تلقي اتصال من نتنياهو على أن الأخير بات ورقة محروقة سياسيا، وأن المستقبل أصبح خلفه وأيامه معدودة على رأس الحكومة الإسرائيلية عقب تعرضه لانتقادات حادة في الداخل، واتهامات قاسية من الخارج بعد تصاعد منسوب الدمار في غزة وكثافة الضحايا من المدنيين، ناهيك عن توتر متصاعد في العلاقة بينه وبينه الرئيس الأميركي جو بايدن، وقيل إنه يبحث عن خليفة له في الحكومة.

الحسابات المصرية لم تكن غائبة عن ذهن نتنياهو عندما جرى تسريب معلومات حول رفض السيسي تلقي اتصال منه
◙ الحسابات المصرية لم تكن غائبة عن ذهن نتنياهو عندما جرى تسريب معلومات حول رفض السيسي تلقي اتصال منه

جاء قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي الجمعة بشأن القضية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل ليؤكد تراجع فرص استمرار نتنياهو في السلطة، فالقرار مع أنه لم يدن إسرائيل مباشرة، لكن قبول المحكمة النظر في القضية ومطالبتها باتخاذ إجراءات لوقف استهداف المدنيين في غزة يشبه الإدانة، ومن المتوقع أن تضطر إسرائيل لتلافي تداعياته التمهيد لتغيير في هيكل الحكومة الحالية، في مقدمته رئيسها.

وسعت القاهرة إلى توظيف امتناع السيسي عن استقبال اتصال من نتنياهو لدحض اتهامات لاحقتها وروجت لها جماعة الإخوان المصرية منذ اندلاع الحرب على غزة حول تعاون مصر مع قوات الاحتلال للتخلص من قوة حماس العسكرية، وتكذيب الانتقادات التي تعرضت لها بسبب ما قيل عن غلق معبر رفح، وأنها فرية إسرائيلية لتنصل نتنياهو من المسؤولية ووضعها على عاتق مصر وحدها.

وعزز رفض السيسي الحديث مع نتنياهو من المضامين السياسية والأمنية التي حملها خطابه المباشر إلى القيادة الإسرائيلية أثناء الاحتفال بذكرى عيد الشرطة المصرية في الخامس والعشرين من يناير الجاري، حيث وجه رسائل صريحة حول خطورة ما يجري في المنطقة جراء الحرب على غزة، وأعاد التذكير بالثوابت المصرية حول القضية الفلسطينية، ولذلك فأيّ تواصل مع نتنياهو في هذه الأجواء يوحي بازدواجية.

وكي تحصر القاهرة المشكلة في نتنياهو، واصلت الاتصالات الأمنية مع الجانب الإسرائيلي، فلا تزال تعمل لوقف إطلاق النار أو التوصل إلى هدنة طويلة وإنهاء أزمة الأسرى والمحتجزين لدى حماس، وأُعلن عن عقد اجتماع أمني في باريس قريبا، بحضور وفود من مصر وإسرائيل وقطر والولايات المتحدة، وهي إشارة دالة على استمرار التعاون في القضايا الأمنية، أما الاتصالات السياسية فهي مجمدة إلى إشعار آخر.

ولم تكن الحسابات المصرية غائبة عن ذهن نتنياهو عندما جرى تسريب معلومات حول رفض السيسي تلقي اتصال منه، فقد أراد رئيس حكومة الحرب الذي يعاني من ضغوط عدة تعزيز اتهاماته السابقة للقاهرة وأنها من أسباب المشكلة وليس الحل، فعندما يرفض رئيسها الحديث معه يوحي أنه يدعم منهج حماس، وأن رفض الدخول في تعاون حول ترتيبات أمنية في ممر فيلادلفيا يعني وجود أجندة خفية تحملها القاهرة.

مع أن رفض تلقي مكالمة من مسؤول كبير يحمل إهانة في الأعراف السياسية، غير أن نتنياهو ابتلعها ليرسل من خلالها رسائل إلى الجمهور الإسرائيلي بعد تزايد نسبة الغاضبين في صفوفه من توجهات رئيس حكومة الحرب، ويوحي كأن هناك مؤامرة يتم نسجها حوله من أول وأكبر الدول العربية التي وقّعت اتفاقية سلام مع إسرائيل، ومن الطبيعي أن يتعرض لعراقيل من آخرين، على أمل إقناع الغاضبين بالتحلي بالصبر عليه ليتجاوز عاصفة إقليمية لن تؤثر عليه وحده، بل على دولة إسرائيل.

رفعت حرب غزة الغطاء عن الكثير مما يعتمل تحت السطح في العلاقات بين مصر وإسرائيل، وأن المدى القاتم الذي وصلت إليه لا يزال مستمرا، وهو محكوم بميراث سلبي من الجانبين، فإسرائيل عملت على دفع الفلسطينيين في غزة نحو توطينهم في سيناء، ومصر وقفت معنويا وسياسيا بجوار المقاومة التي تخوض حربا شرسة ضد إسرائيل، لأن مقتضيات الأمن القومي تفرض مناصرتها وعدم دحرها.

◙ امتناع السيسي عن تلقي اتصال من نتنياهو فسّر على أن الأخير بات ورقة محروقة سياسيا، وأن المستقبل أصبح خلفه وأيامه معدودة على رأس الحكومة الإسرائيلية

مرت مجموعة من التطورات اعتمدت على شفرة الرسائل المبطنة التي يوجهها كل طرف للآخر في خضم الحرب على غزة وما قبلها، وتثبت في مجملها وجود فجوة كبيرة بين الجانبين، وأن اتفاقية السلام والتفاهمات التي تم التوصل إليها في محطات مختلفة لم تفلح في تذويبها، ما يعني أن الفترة التي تعقب انتهاء الحرب ستمر بمطبات وعرة، وسوف تزداد وعورتها إذا استمر نتنياهو في السلطة أو جاءت شخصية أخرى أكثر تطرفا لرئاسة الحكومة.

اعتقدت إسرائيل قبل الحرب أنها قادرة على تطبيع علاقاتها في المنطقة من دون الحاجة إلى مصر، وإمكانية تجاوز القضية الفلسطينية، وأثبتت الحرب أن هذه المسألة صعبة في شقها المصري والفلسطيني، بحكم الجغرافيا السياسية على الأقل، ولدى القاهرة من الأدوات ما يمكّنها من صعوبة تهميشها.

كما أن القفز على مقتضيات ومفاصل القضية الفلسطينية أصبح مستحيلا، وقد اعترفت دول كبرى مؤيدة لإسرائيل، في مقدمتها الولايات المتحدة، بأهمية حل الدولتين، بقطع النظر عمّا يحمله الطرح الأميركي من غموض وملابسات في فحواه ومآلاته، لكنه يشير إلى أهمية التسوية السياسية ووضع فيتو على الحلول الإقصائية.

وتراهن مصر على ظهور قيادة إسرائيلية تمضي على طريق السلام، وأن مرحلة نتنياهو وكل المتطرفين يجب طيها، لأن استمرارهم أو مواصلة نهجهم يحمل عقبات في علاقات تل أبيب الإقليمية، ويمنح حماس أو من يتبنون طريقها فرصة لإعادة ترتيب الأوراق لإحداث توازن يتماشى مع قناعات المستوطنين العنيفة، والتي يمكن أن تحرق إسرائيل قبل حرق قطاع غزة ومدن الضفة الغربية مرة أخرى.

يمكن القول إن المستقبل السياسي لنتنياهو انتهى أو على وشك الانتهاء، والتواصل معه من قبل قيادات كبيرة ربما يمنحه طوق نجاة، فالرئيس بايدن نفسه غاب نحو شهر عن الحديث معه، وعندما أجرى اتصالا به منذ حوالي أسبوع زادت الانتقادات له وبدا كمن ينقذه، إذ سعى نتنياهو لتوظيف الاتصال به كمكافأة سياسية لمنهجه، الأمر الذي حاول السيسي تجنبه تماما، وقطع الطريق على أيّ تفسيرات رمادية.

4