توازنات جديدة للحرب بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تيغراي

جولة مغايرة من المعارك بعد أن استوعب الطرفان دروس الجولة السابقة.
الأحد 2022/09/04
الحرب لا تزال في مرحلة الكر والفر

حجم الخسائر المرتفعة يفرض على رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وجبهة تيغراي تغيير التكتيكات من المواجهة المفتوحة إلى تكتيكات جديدة للحرب تراعي معطى هاما، وهو رفض المجتمع الدولي للتصعيد وخاصة استهداف المدنيين.

بدأت طبول الحرب تدق مرة أخرى بين الحكومة المركزية في إثيوبيا وبين جبهة تحرير تيغراي في شمالها بعد انتهاء الجولة السابقة لنتيجة أقرب إلى صيغة “لا غالب ولا مغلوب”، فكل طرف حقق جانبا من المكاسب وجانبا من الخسائر، بما يصعب معه القول إن رئيس الحكومة آبي أحمد ربح الحرب وقضى على تمرد تيغراي أو إن قادة الأخيرة حققوا نصرا حاسما بعد أن عادت الأوضاع إلى ما قبل الحرب تقريبا.

تجري ملامح الفصل الجديد من الحرب في أجواء محلية وإقليمية ودولية مغايرة، ما فرض اتباع تكتيكات تتواءم مع التطورات التي حدثت الفترة الماضية وحسابات أطرافها الرئيسية، ومحاولة تجنب تكرار الأخطاء التي ارتكبت وأدت إلى تذبذب مواقف القوى الخارجية، وارتباك المواقف الداخلية لدى الأطراف المنخرطة مباشرة في الحرب، والاستفادة من المعاني التي يحملها عدم صمود وقف إطلاق النار طويلا.

اندلعت الحرب الأولى وسط عوامل غير مواتية لآبي أحمد ومع ذلك حاول أن يتخذ منها وسيلة لتأكيد صرامته وزعامته للشعوب الإثيوبية بالآلة العسكرية، في وقت كان فيه الكثير من الأقاليم يعيش مرحلة عالية من الفوران السياسي والغليان الأمني والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وكانت حرب تيغراي أشبه بمدخل مهم للسيطرة على هذا الإقليم المعروف بقوة شكيمته العسكرية وكثافة عناصره المسلحة، وحملت الحرب التي بدأها آبي أحمد رسالة إلى كل الأقاليم التي يعتقد أنها يمكن أن تنتفض ضده بقوة.

◙ آبي أحمد يدخل الحرب وعينه على الولايات المتحدة التي مارست إدارتها ضغطا كبيرا عليه، لكنها لم تحقق نتيجة حاسمة

لم يحافظ الرجل على التقدم الذي حققه في بداية الجولة السابقة لأسباب بعضها يتعلق بالخطط العسكرية وارتباكاتها، وأخرى بالمواقف الدولية التي مانعت مواصلة الحرب في ظل تصاعد الخسائر البشرية وارتفاع معدلات الهجرة والنزوح.

واضطر آبي أحمد إلى الانكفاء نحو الداخل، ما ساعد قوات تيغراي المدربة جيدا على التقدم والتوغل في أراضي أقاليم قريبة من أديس أبابا، وهو ما أفضى إلى صعوبة المعركة التي دخلت عليها قوى محلية أجبرت تيغراي على العودة والانكفاء.

أخفقت معارك الكر والفر في تحقيق نصر حاسم لأيّ من طرفيها الرئيسيين، وأسهمت الضغوط الخارجية على أن تصبح النتيجة في حكم التعادل، وهي نتيجة مرضية لقوى متعددة تقاطعت مصالحها في إثيوبيا، فتفوّق الحكومة التي يقودها آبي أحمد يؤدي إلى تضخمه إقليميا، وخسارته أمام تيغراي يهدد مصالح قوميات أخرى، ولم يكن هناك خيار سوى الدفع نحو وقف إطلاق النار والشروع في تهيئة مناخ موات للسلام.

في خضم ضجيج السلاح، حقق آبي أحمد نصرين مهمين، الأول يتعلق بإجراء انتخابات برلمانية وفوزه باكتساح فيها، بصرف النظر عن الملابسات التي أحاطت بها ومدى النزاهة والشفافية والشكوك وعدم المصداقية، فقد طوى واحدة من الصفحات التي مثلت منغصا له في معركته ضد قادة تيغراي، كما تمكن من القيام بعملية الملء الثالث لسد النهضة وشرع في توليد الكهرباء، وحقق أحد أهم أهدافه القومية التي تمكنه من زيادة شعبيته، وتؤكد أنه قادر على العبور بإثيوبيا إلى بر الأمان.

يرخي هذان التطوران بظلال إيجابية على تقديرات آبي أحمد في الجولة الجديدة من المعارك مع تيغراي، فلم يعد مشغولا بتجديد الثقة به، أو يخشى توقف مشروع سد النهضة والدخول في مواجهة غير متوقعة بعد أن خاض مع مصر تراشقات سياسية مضنية، ومع السودان التحامات عسكرية كان من الممكن أن تؤدي إلى فوضى.

تعزز المرحلة التي وصل إليها التطوران موقف آبي أحمد في إدارة الحرب مع تيغراي بطريقة أكثر هدوءا، خاصة أن الطرف المقابل (تيغراي) تأكد أن مغامرة مواصلة الزحف على أديس أبابا بأيّ ثمن خيار لن يكون مفيدا، وسيلجأ أيضا إلى تكتيكات تساعده على إحراز أهدافه من خلال آلية تسجيل النقاط وليس بالضربة القاضية.

◙ أسياسي أفورقي لا يريد أن يعيد تكرار نموذج التدخل المباشر في الحرب ضد إقليم تيغراي بعد أن كادت الجولة السابقة تعرّض نظامه إلى المزيد من الضغوط الدولية

استوعب رئيس الحكومة الإثيوبية الدروس التي انطوى عليها الرفض الدولي لعملياته العسكرية والتقتيل المفرط في أوساط المدنيين بإقليم تيغراي، ويستعد لخوض حرب تمكنه من قصقصة أجنحة الجبهة وسد المنافذ الخارجية للدعم الواصل إليها.

ولذلك تعمد الإعلام الإثيوبي التركيز على إسقاط طائرة محملة بالأسلحة في طريقها إلى تيغراي عبر الأجواء السودانية من دون أن يعرض حطاما لها أو يشير إلى نوعية الأسلحة التي حملتها والجهة القادمة منها، فالمهم إثبات وجود دعم خارجي لتيغراي.

يدخل آبي أحمد الحرب وعينه على الولايات المتحدة التي مارست إدارتها ضغطا كبيرا عليه، لكنها لم تحقق نتيجة حاسمة، وغيرت مبعوثها إلى القرن الأفريقي ثلاث مرات خلال فترة وجيزة، وهي إشارة إلى إخفاقها في ضبط مفاصل هذه المنطقة التي تنافسها فيها الصين بقوة، وأخذت روسيا تمدد شباكها عبر توطيد علاقاتها مع إثيوبيا، ما يعني أن الضغوط الخارجية سوف تتراجع على أديس أبابا وفقا لتوازنات قوى تمكّنها من إدارة معركتها مع تيغراي، وقد تحللت من بعض الضغوط الخارجية مع استمرار الأزمة الأوكرانية وتداعياتها العالمية.

ولا يريد رجل إريتريا القوي الرئيس أسياسي أفورقي أن يعيد تكرار نموذج التدخل المباشر في الحرب ضد إقليم تيغراي بعد أن كادت الجولة السابقة تعرّض نظامه إلى المزيد من الضغوط الدولية بحكم أنه لا يزال أحد الأنظمة المنبوذة في المنطقة وتخشى جهات عديدة من طموحاته في الهيمنة على الإقليم المجاور لبلاده.

يبدي أفورقي استعدادا لاستمرار دعمه لآبي أحمد ويتحسب من إرساله قواته إلى إقليم تيغراي مرة أخرى بعد أن طالته اتهامات بالرغبة في الهيمنة على المناطق الحدودية مع إثيوبيا، ما يمثل حرجا لرئيس حكومتها أمام شعوبه، خاصة أنه يعي أهمية استمرار التحالف مع أفورقي في هذه المرحلة من دون مواصلة خرق الخطوط الحمراء التي جعلت من إريتريا صديقة بعد مرحلة طويلة من العداء، ما يؤكد أن آبي أحمد سيكون أشد حرصا على عدم وقوع الخلل وضبط التوازن في هذه العلاقة.

كما أن جبهة تيغراي التي قرأت هذه المتغيرات في حاجة إلى بناء جدار داخلي قوي وتأمين المناطق القريبة منها، اعتمادا على إعادة بذرة الثورة لدى شعوب ترى أن حكومة آبي أحمد تمثل تهديدا لها، ومن الواجب إيجاد نوع من التعاون والتنسيق الكبير لاستهدافه وتعظيم المصالح وإزالة مخاوف الهيمنة التاريخية التي عرفت بها تيغراي.

لن تكون الجولة التي يخوض رحاها قادة تيغراي والحكومة الإثيوبية قادرة على الإسراف في المعارك العسكرية كما حدث في سابقتها، لأن حجم الخسائر في صفوف الطرفين كان باهظا، وسيكون الاعتماد على التكتلات التي تضيّق الخناق على الآخر خيارا مفضلا لفرض نوع من الحصار والإنهاك الذي يقود إلى زيادة الخسائر ببطء.

 

4