تنظيم القاعدة يغير مفهوم جهاده بالتركيز على المحلية

تبرز المؤشرات التي يمكن تمييزها من خلال متابعة التنظيمات الجهادية السنية وجود تغير واضح في أساليب هذه المجموعات التي أصبحت تفضل الابتعاد عن الأجندة العالمية مقابل تبني رؤية محلية للجهاد. وتبدو جبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة في سوريا، نموذجا يفسر التوجه الجديد، فهي تؤمن بأن استراتيجية ملاحقة “العدو البعيد” قابلة للتغيير وأن التركيز على أي شيء آخر غير القتال المحلي غير مقبول. على هذا الأساس سيواصل الجهاديون السنة تعديل تكتيكاتهم لتعميق وجودهم في المنطقة.
القاهرة – ينطوي ظهور مؤشرات تؤكد شروع الجهاديين السنة في التحول من الجهاد العالمي إلى المحلي على قناعة لدى قادة منظماته بأن مسعى عزل الأيديولوجيا المتطرفة ووقف نشاط تنظيماتها المسلحة والتصدي لمصادر تمويلها نابع من إرادات محلية وليست خارجية.
أدى الجهاد العالمي إلى علاقات أمنية واستخبارية أقوى بين الدول العربية ودول أوروبا، وانعكس استهداف الغرب سلبا على مشروع الجهاديين، حيث قاد إلى إعادة بناء العلاقات بين القوى الدولية ودول الشرق الأوسط الفاعلة.
في مرحلة تشهد إعادة بناء وتمديد عكسي لمشروع الجهاد السني بعد الهزائم في العراق وسوريا، سوف تظل البيئة العربية هي الساحة الأهم لدى تنظيماته.
جهاد برعاية مصالح سياسية
تلعب الأوضاع السياسية في المنطقة العربية الدور الأبرز في فتح مسارات حضور ونشاط متجدد لتلك التنظيمات التي تستغل الانغلاق السياسي والاحتقانات المستمرة والتضييق على تيار الإسلام السياسي وروايات انعدام جدوى العمل السلمي وتداول السلطة.
تجد أطراف متشابكة ومتناقضة المصالح أحيانا أنه من الضروري تحريك وتدوير النشاط الميليشياوي السني محليا وضخ دماء جديدة في شرايينه.
يحرص البعض على دعم مصالحه السياسية عبر رعاية هذا النشاط الجهادي المحلي بالوكالة، في مواجهة مسارات ترعى توحيد المؤسسات العسكرية بالدول العربية والتوصل لتسويات سياسية تنهي نشاط الميليشيات المسلحة ونفوذها.
في الوقت الذي تحرص فيه القاعدة على تحسين علاقاتها مع مجتمعاتها ومحيطها المحلي ومع الفصائل الجهادية الأخرى، لا يملك داعش ما يؤهله لنسج مثل هذه العلاقات
الدفع باتجاه دعم الجهادية السنية المحلية عائد بشكل أساسي إلى أن الجهاديين السنة الذين يتبنون إستراتيجية معادية للغرب ويجهزون لاستهداف دوله وغالبيتهم منضوون داخل داعش لا يزالون رغم الهزيمة قادرين على استقطاب العشرات من المقاتلين وتوفير مصادر للدعم.
يستهدف داعش المصالح الغربية والأميركية بالداخل المحلي كهجماته الانتحارية في الصحراء الكبرى خلال يناير 2018 والتي أعلن مسؤوليته عنها ضد القوات الدولية والأميركية، وهجومه الانتحاري في منبج السورية الذي قتل فيه مدنيون وعسكريون أميركيون.
لذلك هناك من يحرص خلال المرحلة المقبلة على حضور حالة جهادية مناهضة تجذب الفصائل الجهادية نحو المحلية قادرة على احتواء الآلاف من المنشقين عن داعش بهذا الاتجاه، قبل أن ينهض التنظيم ويستعيد مقاتليه ويدفع بهم داخل مشروعه العالمي.
ومرحلة الجهاد المحلي بالنسبة لتنظيم القاعدة لا يمكن اعتبارها محدودة أو مؤقتة بل هي توجه إستراتيجي مدروس، واضعا أمامه دروس التجربة الأفغانية وما وعاه واضعو إستراتيجياته من تجارب الجهاديين السنة وأخيرا تجربة الإسلام السياسي.
وتلعب المفاوضات التي تخوضها حركة طالبان مع واشنطن حاليا دورا رئيسيا في تحديد مسار القاعدة وأهدافه المستقبلية.
وإذا كان تنظيم القاعدة قد أسس قوته الضاربة وعاش مرحلة ازدهاره الكبرى خلال الفترة ما بين 1996 و2001 عبر الاستفادة من حضوره بالميدان الأفغاني وتمتعه بالأرض التي منحته فرص التدريب والإعداد وتأمين استقدام مقاتلين جدد وضخ الآلاف منهم إلى مناطق نفوذه، فهو الآن مقبل على مرحلة تحكمها تعهدات طالبان لواشنطن بمنع استخدام الأراضي الأفغانية في أنشطة معادية للغرب.
وطالبان لم تعد هي الحركة الأفغانية التي تحالف معها في السابق تنظيم القاعدة وفق مصالح متبادلة تدور حول دعم سلطة الإمارة الأفغانية عبر جلب المؤيدين والمقاتلين من كافة أنحاء العالم لشن الحرب المقدسة ضد العالم الصليبي بحسب تعبير بن لادن، فهي الآن لاعب سياسي يسعى للسلطة ببراغماتية ومرونة وإقصاء المتشددين داخلها وتفاهمات مع قوى دولية ولاعبين محليين.
كما اختلف القاعدة كثيرا عن ذلك التنظيم الذي كان ينفذ عمليات إرهابية كبرى حتى سبتمبر 2001 في العمق الأوروبي والأميركي، فقد مر بمراحل لم يمر بها تنظيم داعش بعد والذي يبدو أنه لا يبدأ من حيث انتهى القاعدة بل من حيث بدأ.
غزو أفغانستان في العام 2001 وإسقاط حكم طالبان وما صحبه وتبعه من فرار لقادة وأعضاء القاعدة، دفعا التنظيم لتغيير إستراتيجيته إلى ما يشبه حرب العصابات انطلاقا من المناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان بتوجيهات متقطعة من قيادة مشتتة وغير مستقرة.
وجاء غزو العراق في العام 2003 ليكون بمثابة الإنقاذ للقاعدة المشتت وشبه المنهار، عندما عثر قادته بالمجان على مركز تعبئة نموذجي في قلب العالم الإسلامي والعربي وألهمت التطورات في العراق قادة التنظيم فكرة تأسيس الفروع المحلية والاستفادة مما يجري بالمنطقة العربية للتمدد والتمركز بالداخل العربي وصولا لذروة دوافع هذا التوجه مع انطلاق الانتفاضات الشعبية التي حرص القاعدة أكثر من أي كيان إسلامي آخر على استثمارها لصالحه.
سبيل الخلاص
منذ العام 2011 أعطى وضع تنظيم القاعدة في أولوياته كسب الشعوب العربية لصفه واستغلال غضبها على الأنظمة السياسية لصالحه، طارحا نفسه بمنهج مغاير تماما للقاعدة الذي كان طليعة الجهاد العالمي بأن صار وفق أدبيات منظريه الجديدة طليعة الثورة والكيان الذي من شأنه صنع الفارق في مشروع تغيير الأنظمة لمقدرته على مواجهة الأجهزة الأمنية.
وضح ذلك في طرح أيمن الظواهري منذ ذلك التاريخ إلى اليوم ومنذ رسائله الأولى للثوار تحت عنوان “رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر” وحتى بيانه الأخير الذي يشرح فيه كيفية تدارك خسائر وهزائم الثورات ضمن الفيديو الذي بثته قناة السحاب في السادس من فبراير الجاري بعنوان “سبيل الخلاص”.
أشكال التكفير تراجعت إلى جانب الهجمات الانتحارية، حيث بدأت الجماعات الجهادية في محاولة مواءمة أنفسها مع المؤمنين المعتدلين بدلا من فرض وتوسيع فوهة الاختلاف
وانعكس هذا التوجه نحو المحلية على طرح القاعدة الفكري وطريقة قادته في صياغة بياناته وإصداراته حيث صاروا يرددون عبارات ومصطلحات لم يستخدمها قادة التنظيم من قبل مثل مصطلحات إرادة الأمة والحريات السياسية، وربطهم لشرعية أي نظام سياسي حاكم بمدى تعبيره عن إرادة الشعوب ونيله لرضاها. في السنوات الماضية توجه اهتمام تنظيم القاعدة نحو المحلية عبر محاولات كسب الكتل القبلية والمجتمعية، وبدا أن قادة التنظيم قد فارقوا نبرة الاستعلاء وخطاب احتقار الجماهير وجهاد الفئة المختارة إلى خطاب يحترم المجتمعات والشعوب ويشركها في النضال.
وضح هذا التوجه في رسائل أبومصعب عبدالودود قائد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، لقادة الجماعة المسيطرين على شمال مالي وفيها يحث على ضرورة إشراك القوى السياسية الفاعلة كحركة أزواد العربية وغيرها، وأوصى الظواهري إلى عطية الله الليبي باستبدال لغة احتكار الإنجاز بلغة تدل على الشراكة وتضافر جهود الأمة.
وتوقف استهداف القاعدة لمصالح الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية وبنى إستراتيجيته الجديدة الهادفة لاكتساب النفوذ المحلي بالتزامن مع تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط بداية من ديسمبر 2010، ومستفيدا من تجربة الميليشيات الشيعية التي حاول استنساخ تسلسل مسيرتها التي بدأت بشن هجمات انتحارية على مصالح غربية وأهداف أميركية، وصولا لترسيخ الهيمنة على المشهد السياسي المحلي والنمو والسيطرة على العديد من العواصم العربية.
وزاوج القاعدة بين إرسال تطمينات إلى الخارج متظاهرا بعدم تبنيه مشاريع توسعية وبتخليه عن مشروع الجهاد العالمي، والانحياز للشراكات المحلية عبر تقديم تنازلات لأطراف داخلية والتضحية بالروابط الأيديولوجية مع التنظيم المركزي.
وأسهم في بقاء فرع تنظيم القاعدة في سوريا الذي يقوده أبومحمد الجولاني في مقابل سقوط فصائل الجهادية السلفية الأخرى وفي مقدمتها داعش، حرصه على عدم الظهور كساع للانفراد بالسيطرة وتبنيه سياسات مرنة بغرض احتواء الكيانات المحلية دون الدخول معها في صدامات والتركيز فقط في مشروع المواجهة مع الأنظمة والأجهزة الأمنية تحت شعار رفع الظلم عن المضطهدين وإقامة حكم الشريعة.
ويشير الباحث السوري في شؤون الجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط حسن حسن إلى ظهور مؤشرات تدل على أن المتطرفين السنة قد شرعوا في تغيير أساليبهم، وأصبحوا يبتعدون عن الأجندة العالمية، التي حققت أوجها في هجوم القاعدة على مركز التجارة العالمي، واتجهوا نحو اتجاه متشدد.
ويبرز هذا التحول في بلدان مختلفة بما في ذلك أفغانستان واليمن ومالي. وفي تقرير نشره حسن في مجلة “أتلانتك” الأميركية يقول إن جبهة النصرة، فرع القاعدة في سوريا، توفر مثالا توضيحيا على كيفية تغير التهديد الجهادي في جميع أنحاء المنطقة.
في سنة 2016، وضعت جبهة النصرة دليلا تدريبيا مطولا لمجنديها الجدد. يتألف الكتاب من 200 صفحة تقريبا، تجادل المجموعة فيه مزايا الجهاد المرتكز على الدولة وتفضله على الجهاد العالمي.
توضح الجبهة لأتباعها أن استراتيجية القاعدة المعلنة المتمثلة في ملاحقة “العدو البعيد” قابلة للتغيير، وأن التركيز على أي شيء آخر غير القتال المحلي في اللحظة الراهنة هو “إلهاء غير مقبول”.
طوال الحرب السورية، وضعت النصرة هذا الأمر النظري موضع التنفيذ. حتى أن زعيمها أبومحمد الجولاني قد تعهد في مقابلة مع قناة الجزيرة في 2015 بعدم استخدام سوريا كقاعدة انطلاق لمهاجمة الغرب، استنادا إلى أوامر القيادة المركزية للقاعدة. وأنشأت المجموعة مكتبا سياسيا وتواصلت مع دول بما في ذلك تركيا لإبراز نفسها كشريك موثوق، لا يشكل تهديدا لأي طرف خارج سوريا.
كما ابتعدت المجموعة عن التفجيرات الانتحارية والتكفير، كجزء من جهد أكبر يهدف إلى عدم إبعاد السكان المحليين.
حظر الهجمات الانتحارية
حسب مصدر من الداخل، طلب عدم الكشف عن هويته، أصدرت جبهة النصرة تعليمات داخلية تأمر فيها قادتها بالامتناع عن استخدام الهجمات الانتحارية كلما أمكن ذلك، وحظرت هذا النوع من الهجمات في المناطق المدنية.
وبالفعل، أجريت بعض الهجمات بعيدا عن الصفوف الأمامية. وعلى نحو مماثل، حظرت جماعة أحرار الشام، وهي جماعة سلفية جهادية قريبة من جبهة النصرة، التفجيرات الانتحارية في الأيام الأولى من النزاع.
وفي الوقت الذي يحرص فيه تنظيم القاعدة على تحسين علاقاته مع مجتمعاته ومحيطه المحلي ومع الفصائل الجهادية الأخرى، لا يملك داعش ما يؤهله لنسج مثل هذه العلاقات فالتنظيم الذي تتملكه نزعة انتقامية ضد الغرب غير قادر على صياغة أيديولوجيا بديلة تحسن من علاقاته بالأقليات والمدنيين والسكان المحليين وقد فرض نفسه منذ بداية تأسيسه كخلافة فوقية لا تقبل الحلفاء أو الشركاء أو استقلالية الأفرع، ولا يرضى بغير خضوع مختلف المكونات الاجتماعية وكافة التنظيمات لأوامر قادته ولإدارته المباشرة.
وهناك الآلاف من أعضاء داعش والإخوان بمثابة خلايا نائمة في انتظار الاستدعاء والتوظيف، ولا يجد الدواعش مفرا من الذوبان والاندماج وسط السكان هربا من القبض عليهم أو قتلهم، وكذلك الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المحظورة بحكم القانون. وأصبح القاعدة التنظيم الأكثر حظا في بعث الجهاد السني المحلي بالمنطقة العربية، فهو قادر على تشكيل حالة جهادية يمكنها التسبب في إقلاق الجيوش والأجهزة الأمنية وإبقاء المنتمين لمجمل التيار الديني في دائرة الأمل والانتشاء بالثأر من حين لآخر، وقادر على عدم حرمان الإسلاميين من حاضنتهم الشعبية والمجتمعية كما فعل داعش عندما خاض حربه على الجميع بمن فيهم المدنيين والسكان المحليين.
ويقول الباحث السوري حسن حسن إن استخدام التفجيرات الانتحارية المقيد والحذر أصبح شائعا خارج سوريا أيضا، بما في ذلك في اليمن وليبيا. ووصلت الهجمات الانتحارية إلى أعلى نسبة بعد الغزو الأميركي للعراق، لكنها تراجعت الآن بشكل واضح (باستثناء الهجمات التي شنتها الدولة الإسلامية).
وتراجعت أشكال التكفير أيضا، حيث بدأت الجماعات الجهادية في محاولة مواءمة أنفسها مع المؤمنين المعتدلين بدلا من فرض وتوسيع فوهة الاختلاف كلما أصبح التباين الديني واضحا.
وبعيدا عن سوريا، بدا فرع القاعدة في اليمن أقرب إلى الأصل في أعقاب الانتفاضة المناهضة للحكومة في سنة 2011 والحرب التي شنتها المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين في 2015. ووصفت القاعدة في جزيرة العرب من قبل بالفرع الأخطر لدورها في الإرهاب الدولي، حتى أنها حكمت حضرموت لمدة سنة كاملة. وفي 2017، أخبرت المجموعة صحيفة نرويجية أنها تخلت عن العمليات الدولية وتوقفت عن تجنيد مقاتلين أجانب كجزء من اتفاق مع زعماء قبليين ودينيين محليين.
ويمكن للمرء أن يرفض اعتبار هذه التغييرات كونها محدودة أو مؤقتة، لكن هناك سببان للاعتقاد بأنها تمثل اتجاها حقيقيا.
أولا، تطور نهج الجهاديين السنّيين محليا من الاضطرابات الجيوسياسية سنة 2011، أين أغرقت الانتفاضات الشعبية في أنحاء المنطقة الجهاديين في عمق الصراعات المحلية. وكان على الجماعات المتطرفة أن تستجيب للأحداث المتغيرة بسرعة، وهو ما يعني أنها لم تكن تستطيع دائما أن ترفع تقاريرها إلى الأيديولوجيين أو القادة الجهاديين الذين يعيشون في أماكن أخرى.
ومثّل هذا الأمر تغييرا جذريا في الطريقة التي اعتاد عليها الجهاديون، الذين كان معظمهم تحت قيادة متطرفين عقائديين أرادوا ملاحقة “رأس الأفعى”، كما وصف أسامة بن لادن وآخرون الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.