تمايز الأقليات أداة لتحقيق المصالح وحجة لتصفية الوجود

يرى مؤلف كتاب “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات”، برهان غليون، أنه من الواضح أنّ مسألة الأقليات ليست مقتصرة في البلاد العربية على مشكلات الأقليات الدينية. فهناك أقليات “أقوامية” تطرح من المشكلات ما لا يمكن حله في إطار المفاهيم والممارسات الراهنة للسياسة العربية، وتتجاوز غالبا ما تطرحه مسألة الأقليات الدينية، ويصبح الوضع أكثر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بأقلية، هي في الآن ذاته أقلية دينية و”أقوامية”، مثل ما هو قائم في جنوب السودان (بعد الانفصال عن الشمال وإعلان الدولة المستقلة في يوليو 2011)
مع ذلك فإن الوقائع لا تطابق دائما الاستنتاج المنطقي، فالعلاقات الأشد حساسية وتوترا، هي تلك التي تنشأ بين جماعات تنتمي إلى القومية ذاتها والثقافة ذاتها، حيث تأخذ قضية تأكيد الذاتية أهمية سياسية كبرى، في الوقت الذي تبدو فيه صعبة المنال، بينما تكون هذه الذاتية شبه أكيدة لدى أقليات “أقوامية” أو أجناسية واثقة من تمايزها الذاتي كالأرمن والشركس وغيرهم من الأقليات التي تميل إلى الانصهار السياسي في الجماعة القومية رغم، أو ربّما بسبب، محافظتها على وعيها الذاتي وثقتها بتمايزها.
أمّا عندما يتجاوز الأمر مسألة تعيين التمايز الذاتي لجماعة صغيرة ضمن جماعة قومية أكبر، فتتحول القضية مباشرة لدى الأقلية الدينية “الأقوامية” المتميزة إلى قضية قومية أو شبه قومية، وربما أصبح حسم مثل هذه القضايا أصعب بكثير من قضايا الأقليات ذات الهوية المتقلبة، خاصة في المنظور القومي الموروث عن أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولكنها لا تطرح الكثير من الاعتراض، فلا أحد ينكر أن الأكراد شعب مختلف عن العرب، وإن وجد هناك من يتصور حلولا مختلفة للمسألة القومية الكردية. يجب أن نميز إذن منذ البدء بين الأقليات الدينية العربية والأقليات القومية التي تحظى بقسط كبير من الاستقلال الذاتي والتمايز والتماسك بسبب وجودها الكثيف التاريخي في منطقة من المناطق أو بسبب كثرة عدد المنتسبين لها، الذي يسمح لها بالحفاظ على الذات.
مشكلة الأقليات الدينية ليست جديدة في العالم العربي، إلا أنها بعد أن تحولت إلى مجريات يمنع الحديث عنها، كبتت في اللاشعور القومي، كي لا تخرج إلى الوعي إلا من خلال مرآة أخرى ليست لها علاقة مباشرة بالتمايز بين الفكري والثقافي، وهي مرآة الصراع السياسي، حيث أصبح تأكيد الذات المحرم على الصعيد الأيديولوجي يتجسد في تأكيد العلاقة بالدولة وفي النفوذ إلى السلطة، وظهر أحيانا كصراع سياسي بين حداثة وتقليد، بين دولة علمانية ودولة دينية.
بقدر ما تستخدم الأقلية تمايزها كوسيلة لتحقيق مصالحها تجد الأغلبية في تحقيق هذه المصالح حجة لتصفية وجودها السياسي
في سياق آخر، يُشير الكتاب، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- بيروت، إلى أنّ مشكلة الأقلية تتعقد أكثر عندما ترتبط الأقلية ذاتها -بقصد الدفاع أو لأسباب تاريخية موضوعية خارجة عن إرادة كل فرد فيها- بسلطة استبدادية أو بدولة أجنبية مهيمنة عالميا. عندئذ تصبح عملية رفض التمايز الثقافي لهذه الأقلية سهلة للغاية، وتستطيع الأغلبية أن تغطي رفضها لهذا التمايز برفض نتائجه السياسية، عن طريق اتهام الجماعة الأقلية بالتعامل مع الأجنبي.
وهكذا بقدر ما تستخدم الأقلية تمايزها كوسيلة لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، تجد الأغلبية في تحقيق هذه المصالح حجة لتصفية وجودها السياسي، ووسيلة لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية جديدة .
من جهة أخرى، لم يتغاض المؤلّف عن الإشارة إلى أن الطائفية هي التعبير السياسي عن المجتمع العصبوي الذي يعاني نقص الاندماج الذاتي والانصهار، حيث تعيش الجماعات المختلفة بجوار بعضها البعض، لكنها تظل ضعيفة التبادل والتواصل في ما بينها، وهي تشكل إلى حد ما الطريقة الخاصة بالتواصل الذي يعدّ في ذاته نوعا من التواصل الصراعي، في هذا المجتمع المتحلل والفاقد؛ ليس فقط للصعيد الموحد السياسي أو الأيديولوجي أو الاقتصادي ولكن أيضا لكل إجماع على أي مستوى من مستويات البنية الاجتماعية.
كما أن النظام العصبوي يسير بالضرورة نحو سيطرة واستبداد عصبة ما على مجموعة من العصبات الأخرى، ولهذا لم يكن من الممكن أن يتحول البناء الاجتماعي الحديث أو ما فيه من حديث، إلى بناء قومي يمثل الأمة بأكملها، كما أن القديم لم يفقد الشعبية ويتحول إلى بنية فارغة تسقط من تلقاء ذاتها.
يضاف إلى ذلك سقوط الوهم حول النموذج الغربي وانحسار بريقه، ما يسهّل تدعيم الميل إلى التمسك بالتراث والتقاليد بوجه عالم حديث يفقد أكثر فأكثر قوة الثقة والاعتبار.