تكييف السيرة الغيرية في المسرح العربي.. بين النقل والتخييل

الكاتب والمخرج العراقي عقيل مهدي يوسف يعد واحدا من المسرحيين العرب الذين اشتغلوا كثيرا في الثمانينات على مسرحيات السيرة.
الاثنين 2019/12/23
سيرة أبوزيد الهلالي ألهمت العديد من المسرحيين العرب

تستند النصوص المسرحية، التي تكيّف سيَر شخصيات لها حضور في تاريخ الشعوب وذاكرتها، إلى مصادر تاريخية أو ملحمية أو سيَر شعبية، جامعة بين المنحى التاريخي والمنحى السيَري.

ومن المعروف أن تكييف السيرة الغيرية (تمييزا لها عن السيرة الذاتية) بدأ مع فجر المسرح في تراجيديات الشعراء الإغريق، التي تناولت شخصيات الأبطال والملوك في الملاحم والأساطير اليونانية. وعلى غرارها كيّف شكسبير شخصيات الملوك والأمراء والقادة، ناهلا من سيَرهم التي روتها الملاحم والمصادر التاريخية الإغريقية واللاتينية والإنكليزية والإيطالية والأسكتلندية.

وحذا كتّاب الكلاسيكية الجديدة مثل راسين وكورني حذو شكسبير في تكييف سيَر الشخصيات الإغريقية والرومانية من الملوك أو القادة أو النبلاء، التي تناولتها ملاحم هوميروس وفرجيل.

أما في مسرحنا العربي فقد عرفت بداياته، إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، العديد من المسرحيات التي كيّفت سيَر شخصيات تاريخية من أنبياء وملوك وخلفاء وقادة، ولعل من أبكر تلك المسرحيات مسرحية “يوسف الحَسِن” للشماس العراقي حنا حبش المكتوبة عام 1880، وهي تتناول سيرة النبي يوسف مع إخوته كما وردت في العهد القديم.

توالى بعدها ظهور مسرحيات في أكثر من بلد عربي كيّفت سيَر شخصيات ذات مكانة رمزية في التاريخ والفكر والأدب والفن في العالم العربي، وفي الأدب العالمي، مثل مسرحية محمود تيمور عن عبدالرحمن الداخل (صقر قريش)، ومسرحية صلاح عبدالصبور عن الحلاج، ومسرحيتي الفريد فرج عن سليمان الحلبي، والزير سالم، ومسرحية نعمان عاشور عن رفاعة الطهطاوي، ومسرحية سعدالله ونوس عن أبي خليل القباني، ومسرحيات الكاتب العراقي محمد مبارك عن المتنبي، المعري، عروة بن الورد، أمية بن أبي الصلت، البيروني، الرازي، الحلاج والحجاج بن يوسف الثقفي. وكذلك مسرحيات مواطنيه الكتّاب عادل كاظم عن المتنبي، وعزيز عبدالصاحب عن ابن ماجد، وأبو بشر الحافي، وجليل القيسي عن جيفارا، ونجنسكي، وفان كوخ ولوركا.

وانفرد الكاتب والمخرج العراقي عقيل مهدي يوسف، في الثمانينات، بكتابة وإخراج مجموعة مسرحيات عُرفت بـ”مسرحيات السيرة” مسرَحَ فيها سيَر عدد من الرموز الثقافية العراقية مثل حقي الشبلي، يوسف العاني، السياب، جواد سليم وعلي الوردي بصياغات درامية لم تفرّط بعناصر الصنعة المسرحية لصالح الجانب الوثائقي، أو السيري، بل صهرت الوقائع والمواقف الحقيقية المنتخبة في قالب درامي يقوم على حبكة متنامية فيها من الأحداث والشخصيات والصراعات ما يجعلها تتسم بكل خصائص الحبكة الدرامية.

وكيّف عدد من الكتّاب العرب سيرة الفيلسوف ابن رشد في مجموعة مسرحيات، مثل عزالدين المدني، محمد الغزي، طارق زين الدين وعبدالكريم برشيد، جرى التركيز في معظمها على العلاقة الإشكالية بين المثقف والسلطة، بوصفها واحدة من القضايا التي أثارت الكثير من الاهتمام في العالم العربي خلال العقود الأخيرة. ولبرشيد مسرحيات أخرى، أيضا، عن رموز تراثية مثل عنترة، ابن الرومي، امرئ القيس، والمتنبي في سياق المسرح الاحتفالي.

شخصيات لها حضور في تاريخ الشعوب وذاكرتها
شخصيات لها حضور في تاريخ الشعوب وذاكرتها

كما كيّف ثلاثة كتّاب أردنيين، هم خالد الطريفي ومفلح العدوان وعبدالكريم الجراح، سيرة الشاعر الأردني عرار في مقاربات درامية لحياته المتصعلكة، المتمرّدة، والشاهدة بالشعر على حالات الانكسار والظلم وحب الوطن، ومقاومة الاحتلالين العثماني والبريطاني، والمنذورة بحثا عن العدالة الممكنة والحرية والمساواة.

وكيّف الكاتب والمخرج غنام غنام سيرَتي أبي زيد الهلالي، أحد أبطال السيرة الشعبية الهلالية، والشاعر بدر شاكر السياب، في مسرحيتين الأولى بعنوان “كأنك يابو زيد” استثمر فيها الموروث الشعبي برؤية أعادت إنتاج ما في السيرة الهلالية والتغريبة من مادة درامية. أما المسرحية الثانية فكانت بعنوان “السياب يموت مرتين”.

ومِثل غنام كيّف الكاتب والمخرج الأردني حكيم حرب سيرة “المهلهل” من أيام العرب قبل الإسلام، وكذلك كيّف مواطنه الكاتب هزاع البراري سيرة القائد القرطاجي الأسطوري “هانيبال”، ولاسيما صراعه مع الإمبراطورية الرومانية الصاعدة حول شطآن البحر المتوسط وأراضيه، تأكيدا على روح التمرّد ورفض الخضوع للغالب.

كما كتب الكاتب المصري يسري الجندي مسرحية عن سيرة “عنترة”، وأخرى عن سيرة “رابعة العدوية”، وثالثة بعنوان “الهلالية”، وقدّم مواطنه الكاتب محمود عوض عبدالعال رؤیة مسرحیة لسيرة حیاة الأدیب عباس العقاد بعنوان “القلب الشجاع”.

وبعد رحيل محمود درويش كان من المتوقع أن يتجه المسرح العربي إلى تكييف سيرة حياته، وجاءت المبادرة متمثلة بعرض مونودرامي عنوانه “حنين” كتب نصه ومثله عبدالغني الجعبري، وأنتجه مسرح الأحلام في مدينة الخليل الفلسطينية، ثم تلاه عرض ثانٍ عن الفترة المبكرة من حياة الشاعر بعنوان “لقاء الريح”، كتبت نصه فائزة اليحيى السفاريني، وأخرجه عصام سميح البلبيسي في عمّان.

أخيرا، نذكر أن الكاتب المغربي الزبير بن بوشتى كيّف سيرة الروائي محمد شكري في مسرحية بعنوان “رجل الخبز الحافي”، تناول فيها البعد الشخصي في علاقة شكري بذاته من خلال النبش في ذاكرته المغيّبة، ورصد حكايته في مرحلتين، مرحلة طفولته الشقية، ومرحلة شهرته بوصفه كاتبا مشاكسا ومتمرّدا.

في أغلب النصوص المسرحية التي ذكرناها كيّف كتّابها سيَر الشخصیات التي دارت الأحداث حولها، على عكس النصوص التي تستند إلى فكرة ما أو حدث ما أو تنطلق من حالة ما تهيمن على مخيلة الكاتب.

وإذا كان بعضها ظل أمينا على تلك السيَر، مع تكثيفها حسب مقتضيات المسرح، فإن بعضها الآخر كيّف سيَر شخصياتها من منظور الكاتب أو رؤيته لها، فكان لشطحات خياله حضور كبير في رسم أبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية، فضلا عن إسقاطها على شخصيات ومواقف وحالات معاصرة، أو ربطها بالحاضر، الأمر الذي أتاح للنقاد والمتلقين والمخرجين، فرصة قراءتها وتأويلها وفق رؤى ومنطلقات مختلفة.

17