تقسيم العالم إلى مستبدين وديمقراطيين يضر بواشنطن

الحرب الأوكرانية فرضت على الولايات المتحدة إعادة النظر في العديد من سياساتها، وخاصة تصنيف الرئيس الأميركي جو بايدن دول العالم إلى دول ديمقراطية وأخرى دكتاتورية مستبدة وما تشيعه إدارته بأن العالم يشهد حربا بين الديمقراطيين والمستبدين.
موسكو – استيقظ العالم في أواخر فبراير الماضي على غزو روسيا (وهي أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة وعدد السكان والقدرات العسكرية) لجارتها الأصغر والأضعف أوكرانيا. في الوقت نفسه أبدت الصين دعمها لحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل بدأت تتحرك بشكل عدواني؛ حيث زادت ضغطها العسكري على تايوان وعسكرت بحر الصين الجنوبي ودخلت في صراعات بحرية مع الدول المجاورة.
كل هذا دفع الكثير من دول العالم إلى إعادة حساباتها الجيوسياسية والأمنية بهدف تعزيز أمنها حتى لا تجد نفسها يوما ما فريسة سائغة لدولة أقوى وأكبر. هذه الأوضاع العالمية بمثابة فرصة أمام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للتفكير في تحركاتها السياسية الشجاعة لتعزيز الأمن الأميركي بحسب دان نجريا مدير مركز الحرية والازدهار التابع للمجلس الأطلسي.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنترست استعرض نجريا -الذي شغل منصب ممثل خاص للشؤون التجارية والأعمال بوزارة الخارجية الأميركية، وعضوا في مكتب التخطيط السياسي بالوزارة- أبرز التحولات التي أثارتها الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، وصولا إلى موقف الولايات المتحدة وضرورة إعادة النظر في العديد من سياساتها، وبخاصة تصنيف الرئيس الأميركي جو بايدن دول العالم إلى دول ديمقراطية وأخرى دكتاتورية مستبدة، وقوله إن العالم يشهد صراعا بين الديمقراطية والدكتاتورية.
وعن ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا يقول نجريا إن ألمانيا تبنت خلال سنوات حكم المستشارة السابقة أنجيلا ميركل (بلغت المدة 16 عاما) وما قبلها مبدأ “التغيير عبر التجارة” للتعامل مع روسيا على أمل أن تؤدي العلاقات الاقتصادية مع روسيا إلى تبنيها سياسات داخلية وخارجية رشيدة. ونفس السياسة تقريبا تبنتها ألمانيا في التعامل مع الصين. هذه السياسة حققت مكاسب كبيرة للشركات الألمانية. كما أن ألمانيا خلال العقود الأخيرة قلصت إنفاقها العسكري إلى نحو 1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وخفضت حجم الجيش، فانخفض عدد الدبابات مثلا من 5000 دبابة أثناء الحرب الباردة إلى 266 دبابة عام 2022.
بايدن انتقد دولا مهمة استراتيجيا بالنسبة إلى بلاده في مواجهتها مع الصين وروسيا بذريعة الديمقراطية
لكن الغزو الروسي لأوكرانيا شكل نقطة تحول كبرى بالنسبة إلى الألمان الذين واجهوا حقيقة أن دولة أوروبية لا تبعد عن بلادهم أكثر من ساعتين بالطائرة تقاتل بضراوة من أجل وجودها السيادي ضد جيش يغزوها ويقتل المدنيين ويدمر المدن.
وبسرعة تبنت الحكومة الائتلافية مدعومة بتأييد شعبي واسع تغييرات جذرية في السياسات الدفاعية الألمانية بما في ذلك رصد نحو 100 مليار يورو إضافية للإنفاق العسكري. وبدأ سياسيون ألمان يتحدثون عن ضرورة قيام ألمانيا بدور قيادي في أوروبا على مختلف الأصعدة بما في ذلك الصعيد العسكري، وهو ما يحدث لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
أما حلف شمال الأطلسي (ناتو) -الذي كان حائط الصد الغربي ضد الاتحاد السوفييتي السابق، والذي قال عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ ثلاث سنوات فقط إنه في حالة “موت سريري”- فقد تلقى دفعة قوية من الحرب الروسية الأخيرة. وعلى مدى عشرات السنين يشكو الأميركيون من ضعف الإنفاق العسكري لحلافائهم الأوروبيين الأعضاء في الحلف. وفي عام 2014 كانت ثلاث دول فقط من بين 28 دولة عضوا في الحلف تلتزم بتخصيص 2 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي للإنفاق العسكري، حسب ما ينص عليه ميثاق الحلف. لكن العدد ارتفع اليوم إلى تسع دول، في حين تعتزم دول أعضاء أخرى الوصول إلى هذه النسبة بحلول 2024. وفي قمة الحلف الأخيرة بالعاصمة الإسبانية مدريد تحدثت دول أعضاء عن اعتزامها تخصيص 2.5 في المئة أو 3 في المئة من ناتجها المحلي للأغراض الدفاعية.
وهناك تغيير كبير آخر بالنسبة إلى حلف الناتو رحبت به الولايات المتحدة وهو اعتبار الصين تهديدا استراتيجيا يجب أن يتعامل معه الحلف.
وفي الشرق الأقصى -حيث توجد اليابان صاحبة الدستور السلمي الذي يفرض قيودا صارمة على القدرات العسكرية للبلاد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية- أدى تزايد التهديدات العسكرية من جانب روسيا والصين وكوريا الشمالية إلى إحداث تحولات واضحة في الرأي العام الياباني ودفع النخبة السياسية إلى تأييد تعزيز القدرات العسكرية للبلاد. وفي عام 2015 وافق البرلمان الياباني على تعديل دستوري يسمح لليابان بنشر قوات عسكرية في الخارج ضمن مهام “الدفاع الجماعي عن النفس” مع الدول الحليفة.
وإثر تزايد التحركات العدوانية من جانب روسيا والصين أعلنت الحكومة اليابانية في أبريل الماضي عن مضاعفة الإنفاق العسكري ليصل إلى 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، أي 106 مليارات دولار، وهي ثالث أكبر ميزانية عسكرية على مستوى العالم.
الأوضاع العالمية بمثابة فرصة أمام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للتفكير في تحركاتها السياسية الشجاعة لتعزيز الأمن الأميركي
ويرى نجريا أن إدارة بايدن اتخذت العديد من الخطوات الجيدة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث قدمت إلى أوكرانيا دعما عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا قويا وقادت تحركات الناتو لتقديم الدعم إلى أوكرانيا ونسقت حملة عقوبات دولية ضد روسيا، كما وجهت تحذيرا قويا إلى الصين حتى لا تنتهك العقوبات الدولية المفروضة على روسيا ولا تقدم دعما عسكريا لها.
لكن إدارة بايدن تستطيع القيام بأكثر من هذا؛ فهي تستطيع استغلال الأزمة كما فعلت عدة دول لكي تطبق تغييرات شجاعة من أجل تعزيز الأمن الأميركي.
ويرى نجريا أنه يمكن إعادة النظر في ما يسمى “مبدأ بايدن” الذي أطلقه الرئيس الأميركي للتعريف بأزمة العالم وهي الصراع بين الديمقراطية والدكتاتورية. فالحرب الأوكرانية أثبتت أن هذا المبدأ غير مقنع، وأن ما يهدد الأمن الأميركي وربما الأمن العالمي ليس الدكتاتورية والاستبداد بشكل عام، وإنما التهديد يأتي من الصين وروسيا بشكل خاص، ليس فقط لأنهما دولتان مستبدتان وإنما لأنهما دولتان مستبدتان قويتان وعدوانيتان وتوسعيتان تهددان المصالح الأميركية باستخدام قدراتهما العسكرية والاقتصادية وممارساتهما التجارية غير العادلة وبتهديد السلام في العالم.
ويشير نجريا في تحليله إلى أن إدارة بايدن انتقدت خلال السنوات الماضية عددا من الدول الحليفة والصديقة مثل بولندا وتركيا والهند وتايلاند وفيتنام والسعودية على خلفية قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤكدا أن هذا الموقف خطأ من جانب بايدن لأن هذه الدول مهمة من الناحية الاستراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة في مواجهتها مع الصين وروسيا.
ويدعو المحلل الاستراتيجي والدبلوماسي الأميركي السابق إلى استدعاء مفهوم “العالم الحر” الذي استخدمته الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة، مع إعادة تعريفه ليشمل كل دول العالم التي ترغب في استمرار استقلالها عن السيطرة الصينية أو الروسية سواء كانت تلك الدول ديمقراطية أو دكتاتورية. في الوقت نفسه يمكن للولايات المتحدة مواصلة تشجيع الديمقراطية، لكن من خلال الدبلوماسية الهادئة.