تفكيك المجتمع وإعادة تركيبه في رواية أردنية جريئة

تختلف الإشارات السردية والإيحاءات الأسلوبية من رواية إلى أخرى، وهذا يعود إلى طبيعة المواضيع المتناولة، وقد يجد الكاتب في الواقع المتردي والمتهالك والمهترئ أداة لنقله إلى القارئ دون تزييف أو مواربة، وهذا ما يجعل العمل يتصف بالواقعية وبالجرأة أحيانا، في ظل راهن عربي ممزق ومتآكل يسوده التطاحن والقتل في ظل حروب طائفية أتت على الأخضر واليابس، وجعلت من كل الملامح مزيفة.
الاثنين 2016/06/13
زيف واقع متهالك

يكشف الكاتب زياد أحمد محافظة في روايته “أفرهول”، وعبر لغة واضحة لا تقبل الاحتمالات المتعددة، واقع الحال في الأردن عبر شخوص توزعوا في الفضاء الدرامي بلعبة سردية أمسك بخيوطها الكاتب فأنتجَ أربع روايات في نص واحد، معتمدا على تناسل الحكايات وانزياحها في التشابك العمودي والأفقي، مستفيدا من استقرار المكان الذي يراه مؤقّتا، قابلا للتغيّر أو الاندثار إذا لم يتم الانتباه بعجالة لما يدور خلف خشبة المسرح حيث يجلس فريق العمل المشرف على كل شيء.

ويرتكز محافظة في سرده على ضمير الأنا رغم تغير الشخوص بين الانتماء أو الاتجاه الأيديولوجي، فجاء السارد المتّحد مع شخصياته الذكورية والأنثوية بخطاب واضح المعالم رغم اختلاف المشارب والمنابت والأصول.

من جهة أخرى أراد المؤلف لروايته أن تكون كشف حساب مع الماضي القريب والحاضر العبثي والمستقبل الغامض للمنطقة بأسرها التي باتت تنام وتصحو على شمّاعات عديدة، تهدف إلى تغيير وجهها وتركيبتها معا، ربما من هنا جاء اختيار اسم الرواية، الصادرة عن دار فضاءات في العاصمة الأردنية عمان، “أفرهول” التي تطلق باللهجة المحكية الأردنية على عملية إصلاح محرك السيارة عندما يطاله الخراب، ويفقد قدرته على العمل بكفاءة، ويصبح عندها بحاجة ماسة للإصلاح والتجديد، وهي تنسحب برمزيتها ودلالتها العميقة هذه على الكثير من حيوات الناس وانتماءاتهم وأفكارهم، وعلاقاتهم الإنسانية داخل النص الذي يشتبك مع الواقع بصورة غرائبية من خلال الشخوص الذين يمكن إسقاطهم على الحياة العامة والخاصة لنا.

التعقيد في الوضوح

تتحدث الرواية، التي جاءت في 220 صفحة من القطع المتوسط، دون مواربة عن التزييف الذي طال ويطول كل شيء، الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء من خلال شخصية أرادها الكاتب إشكالية من لحظة العودة إلى الأردن من الولايات المتحدة الأميركية، مازن الإمبريالي الذي يُصبح في لحظة ما “رجل البيانو” المُحاط بمجموعة من الأصدقاء القدامى بينهم صاحب المعالي والطامح لألقاب السعادة والراضي بدور الهامشي.

المؤلف أراد لروايته أن تكون كشف حساب مع الماضي القريب والحاضر العبثي والمستقبل الغامض للمنطقة بأسرها
هذه الشخصية الأخيرة التي يمكن من خلالها رؤية المجتمع من أدق الزوايا، سيكولوجية الإنسان المقهور الذي يكون مستعدا في ثناياه الخفية للتحول إلى جلّاد بلحظة هاربة من الزمن، تلك اللحظات التي اتخذ منها زياد محافظة مساقا حياتيا كاملا ليدلف إلى الحكايات المتشعبّة فينزع اليقين من أكثر الأشياء موثوقية، الصورة الكاملة يمكن رؤيتها بمشهد معكوس للرواية التي أُريد لها أن تبدأ حواراتها على طاولات ببيت عربي قديم تحوّل إلى مقهى عصري على سفح جبل اللويبدة في عمان العاصمة.

المشهد المعكوس للرواية يمكن قراءته دراميا عبر رجل مخمور ملقى على رصيف في نيويورك الأميركية، يثير شفقة رجل قندهاري فيصطحبه إلى بيتِه لتبدأ خيوط الحكاية حيث ينخرط مازن الإمبريالي بشبكة القندهاري الجهادية، وبذات الوقت بتنسيق كامل مع وكالة الاستخبارات الأميركية التي ترصد تحركات الأخير وتقدّم له الدعم الكافي للإيقاع بالشبكة العالمية التي تسعى لتمكين الأرضية الثابتة لها على جغرافيات متعددة تتعرض للانهيار في سوريا والعراق وغيرها، لكنّ القدر لا يمنح الجميع الخيارات التي يرجونها حيث يداهم المرض القاتل جسد مازن بعد عودته بأشهر إلى الأردن، في تلك الأشهر يكتشف الرجل هشاشة الشعارات البرّاقة وسقوط الأقنعة المزيّفة وتناقض دروب السلطة بين الوعورة والسلاسة في آن واحد.

ثنائيات التناقض تلك جاءت في تكنيك سردي جديد اعتمد فيه محافظة على لعبة التكثيف السردي في فضاء محدود جغرافيا رغم الاتساع في الاتجاهات والمشارب، إلا أنّ الكاتب أراد ذلك ليقدّم رؤية –كما هو واضح- للعاصمة عمان من خلال الوضوح الذي هو أصعب أشكال التعقيد عندما يأتي في مكانه، ذلك الوضوح الذي دفع بالروائي إلى إعادة ترتيب المدينة كما يريد وفق معطيات النص القائم على الرؤية الإصلاحية الغائبة، ذلك الغياب الذي أكّده مشهد الحريق الأخير في المقهى، والذي أتبعه الراوي بخاتمة غير معهودة للروايات العربية في عشر قصص قصيرة على لسان سعاد، جاءت فيها ارتكازات الرواية بمفاصل متغيرة بتغيُّر مصائر الشخوص.

"أفرهول" رواية تتحدث عن التزييف الذي طال كل شيء

دلالات وتناقضات

الدلالات الرمزية العديدة التي بثّها الكاتب في النص إلى جانب التناقضات المكثَّفة جاءت إلى حد كبير منسجمة مع لعبة التوازنات الحيّة لإثبات وتأكيد قدرة الإنسان على ضخ الدم من جديد في الجسد المريض، ذلك بدا جليا في تشابك الأيدي بين سعاد الكاتبة ومازن “رجل البيانو” فوق رماد الكتب المحترقة، جاءت الخلاصة في المسرح الأخير حيث كان مرآة عاكسة للبلد والإنسان معا.

لعبة التفكيك والتركيب في نص زياد محافظة، سهلة وصعبة في وقت واحد، ذلك أنها جاءت على شكل حكايات منفصلة متصلة لشخصيات ترتدي ثيابها على أكثر من وجه وتتقن الحياة في مجتمع متصالح مع التناقضات، بل يصل به الحال إلى الدفاع عنها باعتبارها حالة صحيَّة لما سيكون عليه المستقبل، لذلك نراه في هذا العمل استند إلى الواقع بعيني الرائي دون الارتكاز إلى قصص الآخرين كما فعل في روايته السابقة “أنا وجدي وأفيرام”، أو العوالم الغرائبية السحرية كما فعل في روايته الحائزة على جائزة أفضل رواية عربية خلال فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب 2015 “نزلاء العتمة”، الحالة في “أفرهول” كانت لا تقبل التورية بقدر ما أراد الكاتب وضوحا مع ذاته ومجتمعه بالدرجة الأولى.

زياد محافظة روائي أردني يقيم في الإمارات العربية المتحدة ويحمل درجة الماجستير في الإدارة العامة، وهو عضو رابطة الكتّاب الأردنيين، واتحاد كتّاب وأدباء الإمارات. وقد صدر له رواية “بالأمس كنت هناك”، ورواية “يوم خذلتني الفراشات” التي اختيرت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2012، ومجموعة قصصية “أبي لا يجيد حراسة القصور”، ورواية “نزلاء العتمة” التي صدرت منها طبعتان وطبعة خاصة بلغة بريل، ورواية “أنا وجدّي وأفيرام” ومؤخرا رواية “أفرهول”.

14