تعمل من البيت.. ولكن كم ساعة؟

تغيير العمل عن بعد الناجم عن الوباء أدى إلى ساعات عمل أطول وساهم في تحول المجتمع من العمل المتزامن إلى العمل غير المتزامن.
الاثنين 2021/05/03
ساعات عمل أطول للملايين من الأشخاص

العمل عن بعد حقيقة علينا أن نتعلم التعايش معها. وصحيح أنها بدأت كحل فرضته ظروف جائحة كورونا، إلا أنها لن تنتهي بنهايتها. وصحيح أيضا أن هناك مخاطر رافقت العمل عن بعد، إلا أن ما جنيناه أكبر، هذا إن كنا قد خسرنا شيئا. كل ما علينا فعله هو وضع قواعد منظمة للعمل عن بعد والالتزام بها.

لندن- بعد أسابيع قليلة من أول إغلاق شامل فرضته دول العالم تباعا بسبب فايروس كورونا في مارس من العام الماضي، بدأت الشركات في التفكير جديا بخيار العمل عن بعد، لينتقل عدد كبير منا حاملا جهاز الكمبيوتر للعمل من المنزل. وما بدا حلا عمليا للشركات، تحول بالتدريج إلى مشكلة سببتها مرونة ساعات العمل. فقط قلة استطاعت وضع الضوابط والحدود من بينهم الإيطالي أندريا بيستارينو الذي بدأ في ضبط المنبه على الساعة الخامسة والنصف مساء، كتذكير بأن الوقت قد حان للتوقف عن العمل وإغلاق جهاز الكمبيوتر والذهاب للعب كرة القدم مع أطفاله في الحديقة.

قطع الاتصال

قال مدير الابتكار البالغ من العمر 42 عاما، إن هذه العادة ساعدته على تحقيق توازن أفضل بين العمل وحياته الشخصية، بعد أن دفعه الانتقال المفاجئ لشركته الهندسية إلى العمل عن بُعد وقضاء ساعات أطول ملتصقًا بشاشة الكمبيوتر.

وقال بيستارينو عبر الهاتف “في البداية كان الإغلاق صعبا، حيث شعرت بالذنب لابتعادي عن المكتب، وهذا دفعني إلى بذل المزيد من الجهد، فأصبحت أنجز أعمالا أكثر حتى تلك التي يمكنني تأجيلها لليوم التالي”. ولكن بيستارينو لم يكن الوحيد الذي انتقل من العمل في المكتب إلى المنزل.

الدراسات ربطت ساعات العمل الطويلة وعدم الراحة في عطلة نهاية الأسبوع بمجموعة من الأمراض بما في ذلك الاكتئاب والقلق

وبيّنت الأبحاث في عدة بلدان أن تغيير العمل عن بعد الناجم عن الوباء أدى إلى ساعات عمل أطول للملايين من الأشخاص، مما أثار نقاشا مطولا حول الحاجة لمنح الموظفين الحق في قطع الاتصال بالإنترنت لبعض الوقت.

في وقت سابق من هذا الشهر، نشرت منظمة “بروسبكت”، وهي منظمة مدنية بريطانية تدافع على حقوق المهندسين والمديرين والعلماء، وغيرهم من العاملين في القطاعين الخاص والعام، استفتاء قال فيه 35 في المئة من الذين انتقلوا للعمل عن بعد، أن صحتهم العقلية قد تدهورت منذ أن بدأوا العمل من المنزل أثناء الوباء. ومن بين هؤلاء، يربط أكثر من 40 في المئة المشكلة بعدم القدرة على التوقف عن العمل.

وكانت الدراسة جزءا من دعوة للمشرعين البريطانيين لإدراج الحق في “قطع الاتصال”، أي إعطاء الموظفين الحق في ترك العمل خارج ساعات العمل العادية، لمشروع قانون التوظيف القادم المتوقع نشره هذا العام.

وقال أندرو باكس، مدير الأبحاث في منظمة “بروسبكت”، في تعليقات عبر البريد الإلكتروني “بالنسبة للملايين منا، كان العمل من المنزل أشبه بالنوم في المكتب، ولكننا أصبحنا دائما محاصرين بالتكنولوجيا، وهو ما يجعل التوقف عن العمل أمرا صعبا”.

الصحة النفسية

ربطت الدراسات العلمية ساعات العمل الطويلة وعدم الراحة في عطلة نهاية الأسبوع بمجموعة من الأمراض، بما في ذلك الاكتئاب والقلق، وضعف النوم وأمراض القلب. وتشير الأبحاث أيضا إلى أن العمل أكثر لا يعني العمل بشكل أفضل، لأن التعب يعيق قدرة الناس على التواصل والتعرف على مشاعر الآخرين.

ونظرا لأن الشركات تتبنى بشكل متزايد العمل عن بُعد كحل طويل الأمد، حيث يخطط العديد لمواصلته بعد الوباء، تحركت بعض الحكومات لتنظيم الحق في قطع الاتصال.

وقدمت أيرلندا حقا قانونيا للموظفين في عدم الرد على رسائل البريد الإلكتروني أو المكالمات الهاتفية أو الرسائل الأخرى خلال ساعات خارج العمل، بدأ العمل به بداية من شهر أبريل الماضي.

ضغوط العمل المنزلي تقع أساسا على كاهل النساء، حيث يجدن أنفسهن في مواجهة عديد المسؤوليات، مثل رعاية الأطفال والحرص على متابعة دروسهم وتلبية الطلبات المختلفة داخل المنزل، بالإضافة إلى متطلبات العمل

وأيّد برلمان الاتحاد الأوروبي اقتراحا مماثلا في يناير، وتدرس كندا أيضا لوائح الحق في قطع الاتصال التي انتشرت تحت شعار “نحن بحاجة إلى قواعد جديدة”. كما تتخذ بعض الشركات خطواتها الخاصة لمساعدة الموظفين على ترك العمل في نهاية اليوم.

وبيّنت الأبحاث في عدة بلدان أن تغيير العمل عن بعد الناجم عن الوباء أدى إلى ساعات عمل أطول للملايين من الأشخاص، مما أثار نقاشا مطولا حول الحاجة لمنح الموظفين الحق في قطع الاتصال بالإنترنت لبعض الوقت.

وقال عبر الهاتف، أن أي شخص يرسل بريدا إلكترونيا في وقت متأخر من الليل سيظهر له تذكير بأن يفكر مليا قبل إرسال الرسالة. وأضاف جالفاني، أن تقصير ساعات العمل مهم لحماية العاملين من الانزلاق إلى فخ العمل الزائد بسبب مرونة ساعات العمل.

وقال “في إيطاليا، غالبا ما يُحكم على الأشخاص بناءً على مدة عملهم، وليس بناءً على ما يفعلونه، لذلك إذا أردنا التغيير، فنحن بحاجة إلى قواعد جديدة، لأن التغيير لا يحدث من تلقاء نفسه”.

حظر البريد الإلكتروني

تشير المحاولات السابقة لتشريع الحق في قطع الاتصال إلى أن القواعد الجديدة لا تعمل دائمًا كما هو متوقع. ففي عام 2016، وافقت فرنسا على قانون يطالب الشركات التي يعمل بها أكثر من 50 موظفا بتحديد متى يجب على العمال عدم إرسال رسائل البريد الإلكتروني وإجراء المكالمات الهاتفية أو الرد عليها.

لكن في استطلاع أجرته العام الماضي النقابة العامة للمهندسين والمديرين والفنيين، التي تمثل العاملين في مجال التكنولوجيا داخل الكنفدرالية العامة للشغل، قال ما يقرب من 80 في المئة من العمال عن بُعد خلال الوباء، إنهم لا يتمتعون بالحق في قطع الاتصال.

كما قال ماثيو تروبيرت، الذي يعمل ممثلا للكنفدرالية العامة للشغل في مايكروسوفت، إن هذا بسبب الشركات التي غالبًا ما تضع مخططات زمنية لا تناسب جميع الموظفين، فقد يضطر البعض إلى الاتصال بالعملاء في فترات زمنية مختلفة، وتعطي الألوية للعمل قبل الامتثال لسياسات الفصل.

العمل من المنزل قد يؤثر على حقوق الموظفين، حيث من السهل أن يتحول الموظف العامل بدوام كامل إلى موظف بدوام جزئي، ويفقد بذلك الحقوق المهنية التي كان يتمتع بها في السابق

وقال “مبادئ الشركات في قطع الاتصال.. تعمل من الناحية النظرية، ولكن من الناحية العملية فهي ليست بالأمر الهين”.

ويقول خبراء الصحة العقلية إن آليات الإنفاذ الصارمة، مثل إيقاف تشغيل الخوادم لجعل إرسال البريد الإلكتروني بعد ساعات العمل أمرا مستحيلا (وهي إستراتيجية تبنّتها قبل تسع سنوات شركة فولكس فاغن لصناعة السيارات في ألمانيا)، يمكن أن تكون مشكلة أيضا.

وجدت دراسة أجرتها جامعة ساسكس في بريطانيا عام 2020، أن حظر البريد الإلكتروني قد يكون ضارا بالعاملين الذين يعانون من مستويات عالية من القلق أو الذين يحتاجون إلى المزيد من المرونة، مثل مقدمي الرعاية والموظفين بدوام جزئي، ويمكن أن ينتهي بهم الأمر إلى إجهاد أكثر عوض التخفيف عنهم وإراحتهم.

وقالت المؤلفة الرئيسية للدراسة إيما راسل، التي تدرس علم النفس المهني في الجامعة، إنه من الأفضل للمديرين أن يكونوا قدوة وأن يتخذوا إجراءات أخرى أقل توغلا، مثل مطالبة الموظفين بالقائمة بتحديد متى يمكن الاتصال بهم في توقيعات البريد الإلكتروني الخاصة بهم.

وقالت نايلة جليز مندوبة الكنفدرالية العامة للشغل لشركة الاستشارات “أكسنتشر”، إن الشركات بحاجة إلى درس الطريقة التي ينتظم بها سير العمل وإشراك الموظفين في مناقشة، حول كيفية تغييرها -على سبيل المثال، من خلال تحديد أفضل لما يمكن اعتباره “عاجلا”. وقالت، “يمكن أن تبقي أجمل اتفاق (الحق في قطع الاتصال) معلقا على الحائط. لكنه عديم الفائدة إذا لم نعمل به”.

وكان باحثون من من جامعة نيويورك وكلية هارفارد للأعمال، قد نشروا في سبتمبر عام 2021، دراسة حللوا فيها رسائل بريد إلكتروني واجتماعات تمت عبر الإنترنت لأكثر من مليون عامل عن بعد في مدن شملت شيكاغو ونيويورك ولندن وبروكسل، في المراحل المبكرة من التباعد الاجتماعي وعمليات الإغلاق الأولى التي فرضتها الجهات المسؤولة في تلك المدن.

العمل أكثر لا يعني العمل بشكل أفضل، لأن التعب يعيق قدرة الناس على التواصل والتعرف على مشاعر الآخرين

ووجدت الدراسة أن متوسط طول يوم العمل قد زاد بنسبة 8.2 في المئة، أي ما يقارب 50 دقيقة. ويرجع ذلك إلى اضطرار الموظفين للعمل لوقت إضافي لكتابة رسائل البريد الإلكتروني وحضور الاجتماعات بعد ساعات العمل الرسمية.

النساء أكثر تأثرا

ويرجح الباحثون أن زيادة وقت العمل يعود إلى شعور الموظفين بقدر أكبر من الحرية في جدول عملهم اليومي وعدم قدرتهم على الفصل بين العمل والحياة الشخصية، حيث يصبح من السهل تخطي وقت العمل الرسمي بسبب عدم وجود حدود واضحة بين المكتب والمنزل. هذا ما جعل البعض يربطون بين العمل من المنزل وزيادة الإنتاجية، والسبب هو أن الموظفين أصبحوا يعملون وقتا أطول.

النتائج أكدها تقرير آخر صادر عن خلية التفكير البريطانية “أوتونومي”، جاء فيه أن العمل عن بعد ساهم في “تحول المجتمع من العمل المتزامن إلى العمل غير المتزامن، حيث امتدت ساعات العمل على كامل اليوم، وازدادت أيام العمل الأسبوعية شيئًا فشيئًا”.

وحسب التقرير، فإن “ضغوط العمل المنزلي تقع أساسا على كاهل النساء، حيث يجدن أنفسهن في مواجهة عديد المسؤوليات، مثل رعاية الأطفال والحرص على متابعة دروسهم وتلبية الطلبات المختلفة داخل المنزل، بالإضافة إلى متطلبات العمل”.

وهذا ما أكدته دراسة أميركية جاء فيها أن الرجال استفادوا بشكل كبير من العمل من المنزل، فقد عزز من إنتاجيتهم ووسع من آفاقهم المهنية. بينما في المقابل، فُصلت عن العمل خلال العام الماضي في الولايات المتحدة حوالي 3 ملايين امرأة.

بالنسبة إلى الملايين كان العمل من المنزل أشبه بالنوم في المكتب ولكننا أصبحنا دائما محاصرين بالتكنولوجيا

وفي تقرير نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية، قال الكاتب جون هاريس إن انتشار العمل عن بعد أدى إلى تكريس مظاهر عدم المساواة، حيث يُسمح لبعض الفئات بالعمل من المنزل، وتُحرم فئات أخرى من هذا الخيار. كما أن البيئة المنزلية تختلف من موظف إلى آخر، وهو ما يعني تكريس الفوارق في ظروف العمل.

وترتبط فعالية العمل عن بعد بعدة عوامل، منها المساحة المخصصة للعمل وهدوء المكان. وفي الواقع، هناك فرق كبير بين العمل في منزل مشترك أو فردي، وبين إنشاء مكتب ضمن مساحة ضيقة أو في مسكن واسع في الضواحي أو الريف.

كما أن العمل من المنزل قد يؤثر على حقوق الموظفين، حيث من السهل أن يتحول الموظف العامل بدوام كامل إلى موظف بدوام جزئي، ويفقد بذلك الحقوق المهنية التي كان يتمتع بها في السابق.

12