تعلم الحياة يبدأ من كيس القمامة
في تمام الساعة السابعة صباحا ومساء كل يوم، وأنا ذاهبة إلى عملي أو عائدة منه، ألتقي جارتنا الصغيرة ذات الثماني سنوات مع كلبها الصغير، وهي تتجول معه في الأماكن الخضراء المحيطة بالحي ليتخلص من فضلاته. تفعل الصغيرة ذلك كل يوم منذ سنوات طويلة. حتى أنني لم أنتبه إلى أنها كانت تكبر أمام عيني لتتحول إلى صبية يافعة في مقتبل العشرينات.
ثم اختفت الصبية، ولم أعد ألتقيها، وعرفت من جار مشترك أنها انتقلت إلى مدينة أوترخت في وسط هولندا لتدرس بالجامعة وأن العائلة تخلصت من الكلب الذي هرم بدوره لأحد مراكز رعاية الحيوانات.
منذ ذلك الوقت تغيرت صباحاتي بالكامل، وكنت كلما خرجت من البيت رميت عيني، بفعل العادة وحدها، إلى المكان الذي تعودت أن أراها فيه مع كلبها الصغير. ومع أن شهورا كثيرة عدت إلا أنني لا أزال أذكرها بمجرد أن تطأ قدمي الشارع، وأتلفت يمينا ويسارا بحثا عنها.
كنت أعلم أن الكلب لم يكن إلا لتعليم تلك الفتاة الصغيرة المسؤولية والالتزام، كعادة عائلات كثيرة هنا، وقد فعل، ولأنها تعلمت وانتقلت إلى حياة حقيقية ودور أكثر تعقيدا ومسؤولية، لم يعد لوجوده ضرورة، وأعلم أن أطفالا آخرين وكلاب أخرى كثيرة سيصادفونني في شوارع فرعية ومنعطفات.. لأنها ببساطة الحياة في وجهها الطفولي المبسط، حياة المسؤولية والجهد والالتزام في أولوياتها ومبادئها الأساسية، إلا أن مفعولي الزمن والعادة كانا قويين، وتركا فراغا لا يعوض.
يفعلون ذلك مع أبنائهم وبأشكال عدة، لا يفوتون فرصة من أجل تعليمهم مبادئ الحياة وأولوياتها، فمثلا تكلف العائلة الطفل منذ سن 6 سنوات بإخراج أكياس القمامة كل مساء بعد العشاء.
ومرة في الأسبوع، غالبا يوم الأحد، يكون عليه أن يأخذ الورق الزائد إلى حاوية القمامة في طرف الحي، ويعيد قوارير البلاستيك إلى السوبر ماركت، في حين يلقي بقوارير الزجاج في الحاوية المخصصة لها، يمنحونهم مقابلا لذلك، لا يتعدى بعض اليوروهات الصغيرة، وينظرون كيف يديرون ميزانيتهم الصغيرة، بحنكة وتمرس. تبدأ ميزانية الأسبوع من سن 6 سنوات بيورو أو اثنين، ثم تزيد مع العمر لتصل إلى 150 في الشهر أيام الجامعة. ليس أكثر وليس أقل. غنيا أو فقيرا، ابن سباك أو ابن وزير، أحيانا استغرب كيف يستطيع شاب عمره 20 عاما العيش بهذا المبلغ القليل، في بلد قد يصل ثمن بنطلون جينز من الماركات العالمية فيه إلى 200 يورو أو أكثر، لكنهم يكونون قد بدأوا منذ الصغر بتعلم كيفية إدارة ميزانيتهم بالشكل الذي يحقق لهم رغباتهم الأساسية، من دون مبالغة أو إسراف فلا يجدون صعوبة في ذلك.
هذه المهام الصغيرة، التي لا تبدو ذات قيمة كبيرة تعلم الطفل كيفية الالتزام والانضباط، وأخذ دور حقيقي في البيت الذي يعيش فيه مع أفراد آخرين يتشارك معهم في الحقوق والواجبات. تمنحه أيضا إحساسا عاليا بالثقة لأن العائلة اتكلت عليه في إدارة هذه الأمور والتكفل بها بشكل كامل، فلا أحد يسأله أو يلح عليه أو يكرر أو يذكر أو ينبّه كل مسؤول عن جزئه، فالكل يقوم بعمله من منطلق إحساسه بأن المجموعة تحتاجه وأن عجلة الحياة ستتوقف وتتعطل بالكامل إن توقف عن القيام بدوره مهما كان صغيرا أو بسيطا.
إنها معقدة وصعبة ومحبطة أحيانا تلك الحياة التي تنتظرهم، فخذوا بأيديهم الصغيرة وعلموهم أن يواجهوها بثقة ومسؤولية.