تعدد في خدمة الوحدة.. ندوة تبحث حوار الأصيل والوافد في المغرب العربي

(جرجيس) تونس - نظمت كلّ من وحدتي البحث في “أنتروبولوجيا الثقافة العربية والمتوسطية” و”الظاهرة الدينية في تونس” اللتين تضمّان جامعيين وباحثين من كلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منّوبة، كلية الآداب الأم في تونس، ندوة دولية تحت عنوان: “الثقافة في المغرب الكبير: التعدّد في خدمة الوحدة”، في مستهلّ الشهر الجاري، وذلك بمدينة جرجيس السياحية الواقعة في الجنوب الشرقي.
وقد احتضنت الجمعية الساهرة على مهرجان الإسفنج السنوي العريق، فعاليات هذه التظاهرة الأكاديمية والثقافية، بالتعاون مع جمعية قدماء المعهد العالي للتنشيط الثقافي بتونس. وقد واكبت “العرب” أعمال هذه الندوة التي ساهم فيها باحثون من الأقطار المغاربية الخمسة، وغطتها وسائل إعلامية متعدّدة كما حضرها الأستاذ محمد أحمد الهوني، المدير العام لصحيفة “العرب”، الذي حل بجرجيس كضيف شرف على الندوة ووقع الاحتفاء به على نحو خاص من الأسرة المنظمة لها.
خلال الأيّام الثلاثة للندوة تطارح المشاركون المحاضرون بالدرس الظواهر الثقافية المتولّدة عن تتالي العديد من الحضارات على منطقة شمال أفريقيا بحكم موقعها الجغرافي والاستراتيجي في حوض البحر الأبيض المتوسط، هذه المنطقة التي استقطبت منذ العصور القديمة الكثير من السكان جاؤوها من شمال أوروبا وأفريقيا وآسيا، غزاة ومستعمرين، أو رحّالة ومستكشفين وتجارا طاب لهم المقام فاستقروا فيها، أو عبيدا قُيّدوا إليها مكبّلين بالأصفاد، أو مبشّرين بدين جديد، بحيث تتالت عليها الديانات التوحيدية الثلاث، إضافة إلى ما رسب في ثقافة سكانها الأصليين من عقائد قديمة موروثة عن أزمان سحيقة، واختلطت فيها الأجناس فتعايش مع سكانها الأصليين البربر، الأمازيغ والقرطاجنيون الفينيقيون والرومان ثم عرب الجزيرة والأندلسيون ثم الأتراك وأقوام من بلاد القوقاز والصقالبة، وصولا إلى الإيطاليين والفرنسيين.
ولم يكن الهدف من هذه الندوة هو البحث التاريخي، وإنّما غايتها كانت دراسة التعدّدية الثقافية في المغرب العربي الكبير كما هو عليه الحال اليوم أي دراسة آنية، غير أنّ الكثير من الأعمال المقدّمة بهذه الندوة قد وقع الاهتداء فيها بالتاريخ لوصف المشهد الثقافي المغاربي الحالي وتحليله.
لقد استقرت هذه المنطقة منذ قرون على العروبة، باعتبارها حاضنا ثقافيا ولغويّا، وعلى الإسلام دينا لأغلب سكانها، وعلى المالكية مذهبا لهم، وعلى العربيّة لغتها الأولى.
|
لكن هذا لم يمنع سكّانها الأصليين من المحافظة على لغتهم الأمازيغية يتواصلون بها في ما بينهم وعلى البعض من عادات أجدادهم وتقاليدهم، كما لم يمنع البعض من سكانها الذين يعتنقون الديانة اليهودية ويتحدّثون بالعربية في لهجتهم المتميزة من العيش فيها والتعايش مع الأغلبية المسلمة، ولا سكانها من ذوي الأصول الأفريقية من الحفاظ على البعض من مميزاتهم الثقافية التي تلوّنت بالطابع المحلّي، كما لم يمنع كذلك البعض من سكان المغرب العربي الكبير لا سيما في تونس والجزائر وليبيا من السير على نهج آخر في الإسلام مغاير للمذهب السني المالكي، مذهب الأغلبية، وهو المذهب الإباضي، هذا علاوة على تأثر المنطقة منذ قرن إلى اليوم بانفتاحها على أوروبا عنوة في فترة الاستعمار واختيارا بعد الاستقلال عبر السياحة والهجرة، إذ لا ننسى أنّ الملايين من أصول مغاربية من مزدوجي الجنسية يعيشون في أوروبا الغربيّة دون أن يقطعوا الصلة بوطنهم الأصلي، وهو ما يجعلهم يؤثرون من زاوية التعدّديّة تأثيرا كبيرا في المشهد الثقافي المغاربي.
لا شكّ في أنّ هذه التعدّدية تطرح قضايا متعدّدة بما في ذلك على المستوى السياسي، ولذلك فإنّ الهدف الأساسي لهذه الندوة كان العمل على إبراز الوسائل الناجعة التي تمكن بواسطتها إدارة هذا التعدّد حتى يكون عامل إثراء للمنطقة، أي في خدمة وحدتها وتضامن أهلها، لا سيما وقد أثبتت التجربة أنّ المجتمع كلما كان متعدّد اللغات والثقافات كانت فرص نجاحه وإقلاعه الاقتصادي أكبر كما في أوروبا وأميركا الشماليّة.
وتضمن برنامج الندوة جلسة علمية برئاسة محمد بالطيب ومداخلات لكل من: مصطفي عبدالكبير من ليبيا “التعدد القبلي والعرقي في ليبيا.. من عامل للفتنة إلى عامل للتوحد”، وجلول المسعودي “التعدد الثقافي وتحولاته بالجنوب التونسي”، والطيب ولد العروسي “مفدي زكرياء شاعر الثورة الجزائرية، رجل التعدد والوحدة في المغرب العربي الكبير”، والأزهر الجويلي “السياسات الثقافية في المغرب الكبير من خلال اتفاقية اليونسكو لتعزيز جميع أشكال التنوع الثقافي”، ورضا لبيض “التمثيل السردي: التعدد اللغوي واللهجي في الرواية المغاربية”.
وتضمن اليوم الثاني جلسة علمية أولى برئاسة سعد برغل وتناول فيها محمد بن كريم مسألة “الموروث الثقافي المشترك بين اليهود والمسلمين في المغرب الكبير”. وطرح سامي الرياحي موضوع “التسامح في أفق تفكير الشيخين الثعالبي وابن عاشور”. أما كمال الساكري فأثار مسألة “العروبة والتنوع الثقافي في المغرب العربي الكبير”. وحاضر الجليدي العويني حول “قبيلة الربايع كقبيلة مغاربية”. وقدم شكري الغربي مداخلة عن “التعايش الديني والمذهبي في المغرب الكبير من خلال نماذج من أدب الرحلة”. أما الجلسة العلمية الثانية فترأسها لطفي الجريري وقدم فيها كل من هيكل بن مصطفى وعايدة فرحات ولطفي سعدي مداخلات حول التعددية الثقافية كعامل وحدة وتنوع.