تطوير العلاقات الاقتصادية بين القاهرة وأنقرة لتجاوز العثرات السياسية

تجاهل مصر لإشارات تركيا يوحي بأن المسار السياسي مؤجل حتى إشعار آخر.
الأربعاء 2022/08/31
التقارب الاقتصادي لا يلغي الخلافات السياسية

لا تستطيع مصر تجاوز الخلافات السياسية والقضايا الكبرى الشائكة بينها وبين تركيا، لكن الوضع الاقتصادي للبلدين يفرض عليهما تقاربا وانفتاحا جزئيا، يراهن عليه الطرفان لتعزيز التعاون الاقتصادي بينهما، في حين تبدو القاهرة حذرة في التعاطي مع الإشارات الإيجابية التي ترسلها أنقرة، وتنتظر منها المزيد من الالتزام وتغير المواقف في الملفات الحارقة التي تمثل تهديدا لمصالح مصر.

القاهرة - كشف التطور الحاصل في العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا أن الأولى ترتاح إلى هذا البعد تماشيا مع توجهات حكومتها الرامية إلى تخفيف

أعباء الأزمة الاقتصادية بتنويعاتها المختلفة، والتغطية على العثرات التي تواجه المسار السياسي مع أنقرة، والذي أكدت تصريحات مسؤولين كبار فيها الحرص الشديد على القفز فوق أشواكه وعدم انتظار تسوية جميع الملفات العالقة التي حالت دون إحداث التطوير.

وأوضح اجتماع مجلس الأعمال المصري – التركي في القاهرة قبل أيام وما صاحبه من زخم اقتصادي أن هذا الطريق يناسب الطرفين للاستعاضة به عن التعثر السياسي، إذ أكد الرئيس رجب طيب أردوغان أخيرا أن الشعب المصري “طيب ولا يمكن أن نكون في حالة خصام معه. علينا ضمان الوفاق معه في أسرع وقت”.

وفي هذا السياق جاءت تصريحات رسمية عديدة من تركيا لم تقابلها القاهرة بالرد الذي يتناسب معها، وبدا التجاهل غالبا عليها، ما يوحي بأن المسار السياسي لا يزال بحاجة إلى جهد كبير، كأن القيادة المصرية تنتظر شيئا ما من تركيا أكبر من عملية تشديد القبضة على إعلام جماعة الإخوان وترحيل عدد من أشهر العاملين فيه.

رغم توجّس القاهرة من أنقرة، لا تستطيع العودة إلى الخلاف العلني بعد أن أبدت تركيا تفهما للمصالح المصرية

ولم تقدم أنقرة تنازلات انتظرتها القاهرة طويلا بشأن مطلوبين أصدر القضاء المصري أحكاما نهائية بحقهم، ويواجه ملف شرق البحر المتوسط تعقيدات أفضت إلى تجميده.

وتتحمل حسابات مصر مع كل من اليونان وقبرص جانبا من هذا التجميد، فلا تريد انفتاحا يثير حفيظة الدولتين ويرخي بظلال قاتمة على ما حدث من تقدم في العلاقات معهما وتفاهمات مشتركة حيال مشاريع الغاز في المنطقة.

ودخلت طلبات مصر من تركيا بشأن الأزمة الليبية منطقة رمادية تجنبت فيها أنقرة إزعاج القاهرة أمنيا والصدام معها سياسيا، وهي صيغة مريحة مؤقتا، لكنها غير مطمئنة على المدى البعيد، لأن الاستدارة التركية حيال بعض القوى في شرق ليبيا والقريبة من مصر تمثل تسللا ناعما يؤثر على مصالحها بلا صدام معها.

وتشير المعطيات الراهنة إلى أن القاهرة رغم توجسها من أنقرة لا تستطيع العودة إلى الخلاف العلني بعد أن أبدت الأخيرة تفهما للمصالح المصرية في الفترة الماضية بما يقود إلى تهيئة المجال لتطبيع العلاقات بين مصر وتركيا، وقدمت ما يمكن اعتباره تطمينات تؤشر على إحراز تقدم ملموس بينهما.

وتعتقد القاهرة أن هناك ازدواجية في الخطاب التركي الذي يميل أيضا إلى الليونة مع العديد من دول المنطقة، أبرزها السعودية والإمارات وإسرائيل وأخيرا سوريا، وأن الاختبار الحقيقي في مدى الثبات والتذبذب سوف تظهر تجلياته عقب إجراء الانتخابات التركية في منتصف العام المقبل.

وأقرت دوائر عديدة بأن التغيّر في توجهات أردوغان السياسية مرتبط بهذه الانتخابات، وهو ما يعني أن الدول التي أبدى الرئيس التركي انفتاحا عليها تميل إلى التريّث في مبادلته انفتاحا بانفتاح؛ فنتائج الانتخابات هي المحك الذي يمكن القياس عليه والحكم من خلاله على ما طرأ من تغيرات في توجهات الرجل.

178.9

في المئة نسبة نمو الصادرات المصرية إلى تركيا لتصل إلى 1.4 مليار دولار في الربع الأول من العام الحالي مقابل 537.1 مليون دولار في الربع المناظر من العام السابق

وتفسّر هذه الحسابات عدم تجاوب القاهرة سياسيا مع أنقرة وحصر التطور في النطاق الاقتصادي الذي شهد تطورا خلال العام الماضي وظهرت فيه معالم التحسن بين الجانبين كبديل مقبول لا يؤكد أو ينفي الانفتاح بينهما، لأن العلاقات التجارية في خضم الخصومة الحادة لم تشهد تراجعا كبيرا، لكن طرأ عليها تقدم مع التحسن السياسي.

ووفقا لأحدث تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، نمت الصادرات المصرية إلى تركيا بنسبة 178.9 في المئة لتصل إلى 1.4 مليار دولار في الربع الأول من العام الحالي مقابل 537.1 مليون دولار في الربع المناظر من العام السابق، بزيادة بلغت قيمتها 960.6 مليون دولار.

ويتناسب الخيار الاقتصادي مع تصرفات القاهرة تجاه بعض الدول التي لم تتبلور ملامح واضحة للعلاقات السياسية معها أو تواجه تحديات تحتاج إلى المزيد من الوقت لتجاوزها، ويعفيها من تبني رؤى قد يتبين لاحقا عدم دقتها.

وتمضي القاهرة مع الدوحة على هذا المنوال؛ فرغم حدوث تطورات كبيرة على الصعيد السياسي مازالت هناك سلبيات تسم بعض التصورات المشتركة، وحصل المستوى الاقتصادي على دفعة مادية ومعنوية كبيرة في الفترة الماضية، يمكن أن تقلل من الالتفات إلى بعض العثرات السياسية والإعلامية.

ولم يأت الرهان على المستوى الاقتصادي نتيجة عدم القدرة على تحقيق اختراق دبلوماسي كبير في الفترة الماضية، بل لأن الاقتصاد ينطوي أيضا على مكونات سياسية، وهي القاطرة التي تدفع الاقتصاد إلى الإحجام أو الاقدام على توسيع نطاق التعاون.

ويحظى أي تحسن اقتصادي في الحالة المصرية – التركية بمباركة سياسية، وهو ما يفسر أسباب الزيادة الأخيرة في حجم التبادل التجاري بين البلدين، والتي ارتبطت بما حدث من تقدم على المستوى السياسي، لأن رجال الأعمال يتحركون عندما يتلقون ضوءا أخضر من حكوماتهم، وتزداد خطواتهم طرديا.

التحديات التي تمر بها مصر وتركيا تفرض الاستثمار السياسي في البعد الاقتصادي الذي يواجه مشكلات مركبة في البلدين
التحديات التي تمر بها مصر وتركيا تفرض الاستثمار السياسي في البعد الاقتصادي الذي يواجه مشكلات مركبة في البلدين

وتفرض التحديات التي تمر بها مصر وتركيا الاستثمار السياسي في البعد الاقتصادي الذي يواجه حاليّا تحديات مركبة في البلدين، ومن المهم أن يجد كل طرف تنوعا في خياراته في هذه اللحظة، والتي يتوقف عمقها على ما يمثله الاقتصاد الوطني.

ويمكن أن يحقق الاقتصاد جملة من المصالح المشتركة، حيث حمل وفد رجال الأعمال التركي الكبير الذي زار القاهرة أخيرا رسالة يفيد مضمونها بأن هناك فرصا واعدة للاستثمار التركي في مصر، وأن الأخيرة يمكنها مضاعفة صادراتها من الفواكه والموالح إلى تركيا. ويمهد تطوير التعاون في مجالات متعددة سبل التفاهم لاحقا بشأن ملفات شائكة.

ويمثّل تنامي ظاهرة قيام أعداد كبيرة من المصريين -وبشكل غير مسبوق- بزيارات إلى مدن تركيا حاليا مؤشرا جيدا من القاهرة على أنها خففت القيود المفروضة على الراغبين في المضي في توطيد العلاقات الاقتصادية مع أنقرة.

وأدى تسهيل إجراءات السفر من الجانبين مؤخرا إلى زيادة ملحوظة في عدد المصريين، وهي قناة يمكن أن توفر أرضية جديدة لردم الهوة إلى أن تتوافر الأسباب التي تقود إلى رفع الفيتو السياسي نهائيا.

7