تطور الموسيقى والغناء دليل ازدهار الحضارة العربية

يرجع تاريخ الغناء العربي المتقن إلى منتصف القرن الأول هجري في مكة والمدينة. وقد نصّب إسحق الموصلي نفسه حارسا لهذا الفن المتقن وكنوزه وتراثه وأصوله التي أقرها، فحوّل فن الغناء في العصر الأموي بإدخال أساليب جديدة نقلت الغناء العربي لآفاق أوسع بعد أن كان محصورا في نواح معيّنة، إلى أن شهد رقيا ونضجا خلال العصر العباسي استمر في التواصل والارتقاء حتى عصرنا الحالي.
استفاد الغناء العربي ممّا عرفه الأسلاف من فنون عند الفرس والروم الذين تعلّموا منهم العزف على الآلات الموسيقية والعزف على العود، واستطاعوا أن يطوروه بما يتناسب مع أذواقهم وأوزان أشعارهم.
وكان معاوية بن أبي سفيان قد استخدم عمالا من الفرس والروم لبناء دار له في مكة، ثم استخدمهم عبدالله بن الزبير إبان فترة حكمه لترميم جدران الكعبة بعد الحريق الذي شب فيها، كما لبث الفرس في المدينة ومكة يعملون في بناء مشروعات عمرانية منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه ويتغنون ويعزفون، وقد أخذ عنهم العرب فنون الغناء وجاهدوا في صبغها بلغتهم العربية بما يناسب مع الذوق العربي وطوروا ما ورثوه من هذا الفن وأقاموا له مدرسة مميّزة توارثتها أجيال حتى يوم الناس هذا.
تكوّن هذا الفن في مدة لا تزيد عن أربعين عاما في القرن الأول هجري، ولما انتقلت ألحان العصر الأموي إلى العصر العباسي تم جمعها في كتب ومدونات ويرجع الفضل في ذلك إلى ريادة إسحق الموصلي الذي وصفه أبوالفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، بأنه إمام أهل صناعته جميعا ورئيسهم ومعلمهم وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائقه. وكان الموصلي يرى أن من حق صناعته عليه أن يحفظ أصولها التي وضعها رواد الغناء والموسيقى في العصر الأموي بالرواية الأمينة المتقنة.
وكانت هذه مشكلته مع إبراهيم بن المهدي شقيق الخليفة هارون الرشيد الذي لم يكن له في بدايات هوايته للغناء علم بأصوله، وكان الموصلي متشددا في ضبط الألحان طبقا للأصول المتوارثة لذلك فقد تصادم مع الأمير خوفا على الغناء العربي من العبث، خاصة أن الأمير كان يفخر بأن غناءه طرب لا تكسبا وكان له صوت جميل وكان لإمارته مهابة وكان بينهما مناظرات معروفة.
الموصلي ورث أصول الغناء عن أبيه إبراهيم الموصلي وحل محله بعد وفاته كبيرا للمغنين والملحنين بقصر الرشيد، وعاش في حمايته خمس سنوات
ورث الموصلي أصول الغناء عن أبيه إبراهيم الموصلي وحل محله بعد وفاته كبيرا للمغنين والملحنين بقصر الرشيد، وعاش في حمايته خمس سنوات من مؤامرات إبراهيم الذي أصبح من كبار قضاة الدولة حتى تقلص نفوذه في عصر المأمون بعد أن طالب بالحكم.
وبفضل إسحق اتسعت وتأصلت عملية تدوين الغناء، ويرجع إليه كتابة أول نوتة موسيقية عربية، وقال عنه الخليفة المأمون إن الموصلي أكثر دينا وعلما وعفافا ومروءة من بعض كبار القضاة والعلماء، وقيل إنه لولا شهرته في الغناء لصار من القضاة في عصره لشدة تمسكه بالعدل وكان يدخل مجلس الخلافة مع الفقهاء قبل أن يدخله مع المغنين والملحنين.
وقد اشتهر في الأندلس الملحن والمغني زرياب، خلال الثلث الأول من القرن الثالث هجري، وهاجر من بغداد إلى المغرب فالأندلس، وكان قد تتلمذ على يد إسحق الموصلي الذي قدمه للخليفة هارون الرشيد ويرجع إلى زرياب تطوير العود بإضافة وتريْن رفيعي الصوت من الحرير وثالث من أمعاء شبل أسد غليظ الصوت. ومن الثابت أن أول من أدخل تحسينا على العود الفارسي الملحن العربي زلزل أشهر ضارب عود في بغداد.
لقد نضجت مواهب زرياب في قرطبة عندما اتصل بملوك الأندلس الذين غنى لهم روائع ألحان مطربي مكة والمدينة وبغداد، في حين لم تذكر له إسهامات في فن الموشحات الأندلسية فقد اخترعها الأندلسيون بعد عصره، وكان زرياب أعظم فناني الأندلس لكنه لم يكن وحده فقد هاجر إلى الأندلس مع عدد غير قليل من مطربي بغداد وملحنيها. في ذلك العصر بدأ الغناء العربي يزدهر وتغنى المغنون بأعذب أشعار الشعراء العرب وعلى رأسهم عمر بن أبي ربيعة.
وكان بن سريح أشهر من غنى في ذلك العصر، فقد بدأ في مكة بالنياحة وأخذ أصول الغناء المتقن من ابن مسجح والعمال الفرس والروم وتعلم منهم العزف على العود ونقل نغماته إلى عروض الشعر العربي، كما أنه أول من ابتكر مقامات الغناء العربي فكان فنا متكاملا استكمله إسحق الموصلي وزرياب ونقله عنهما الترك والديلم والعجم والخرز وغيرهم. وأصبح الغناء في العصر العباسي فن العرب الثاني بعد الشعر وكان من فنون الصفوة وأرباب الحكم.
وفي العصر الأموي كان عمر بن عبدالعزيز في شبابه مترفا محبا للغناء وقد صنع فيه ألحانا كما كان للوليد بن يزيد ألحان مشهورة، وكان يضرب على العود ويجيد الطبل والدف. في حين عُرف عن الخليفة الواثق بن المعتصم أنه كان ملحنا ومطربا مشهودا له بالإجادة، حيث أنه يقول عن الغناء “إنما هو فضلة أدب وعلم مدحه الأوائل”.
ولما اكتمل فن الغناء العربي أوائل العصر العباسي صار اكتماله من أعظم الأدلة على ثبات الدولة وازدهارها ورقيها، ولما انحدرت الدولة وتزعزع كيانها انحدر معها فن الغناء وتدهور.
ويقول بن خلدون في مقدمته “أول ما ينقطع في الدولة عند انقطاع العمران صناعة الغناء”، ومن أجل الغناء والصوت الجميل كتب الإمام الحجة أبوحامد الغزالي كتاب “آداب السماع والوجد”.
دعاوى تحريم الغناء ظهرت بعد انهيار الدولة في فترة التدهور والانحطاط التي ميزت العصرين المملوكي والعثماني
كما أن أول كتاب ظهر في العصر الأموي عن الأصوات والأنغام كتاب النغم لمؤلفه يونس الكاتب الذي كتب أيضا كتاب “القيان”، ثم تدفقت الكتب في العصر العباسي ولعل أشهرها كتاب للخليل بن أحمد الفراهيدي والكندي والفارابي وبن سينا وصفي الدين عبدالمؤمن، ناهيك عن الكتب التي أغرقها التتار في نهر دجلة أو أغرقها الزمن في غياهب النسيان.
ويُحدثنا التاريخ عن علية بنت الخليفة المهدي التي تميزت بشهرتها في الغناء والألحان وكانت أمها جارية مغنية اسمها مكنونة. ولعل أشهر أبناء الخلفاء في الغناء والتلحين أبوعيسى أحمد بن الرشيد وعبدالله بن موسى الهادي وعبدالله بن محمد الأمين وعبدالله بن المتوكل وله ثلاثمئة لحن. وقد أنجب الخليفة المتوكل ثلاثة خلفاء اشتهروا بالغناء والتلحين هم المعتز والمنتصر والمعتمد وحفيداه عبدالله بن المعتز والخليفة المعتضد الذي كان يغني ويلحن.
وكان الواثق أشهر مغن وملحن من بني العباس وبني أمية، إذ يقول عنه الموصلي “كان الواثق أعلم الخلفاء بالغناء وأحذق من غنى بضرب العود ولم يشغل الواثق عن الفن مهام الدولة، فكان يبدع في كليهما”، حيث كان انتشار الفن ممتدا مع اتساع رقعة الدولة من الهند إلى الأندلس ولكنه لم يعرف الانحطاط والتراجع إلا مع تدهور نظام الدولة، فقد خفت صوته مع خفوت قيم الجمال والحسن والإحساس والفن.
وتجدر الإشارة أن دعاوى تحريم الغناء لم تظهر إلا بعد انهيار الدولة وتراجعها خلال فترة التدهور والانحطاط في العصرين المملوكي والعثماني، حينها انكمش الفن مع انكماش المجتمع وصار عيبا أن يتعلم السلطان الغناء بعد أن كان الخلفاء الأمويون والعباسيون يلحنون ويغنون ويطربون ويسوسون وهم على رأس المجتمع الإسلامي المتقدم على مجتمعات العالم كله.