تزايد النفوذ التركي في سوريا يضع قسد أمام خيارات محدودة: الصدام أم المرونة

يعد تصاعد الصدام التركي – الكردي في سوريا، بعد رحيل نظام الأسد، احتمالا قويا، نظرا للتوترات المستمرة بين الطرفين، بالرغم من الجهود المبذولة وخاصة من واشنطن لتجنب هذا السيناريو. وهو ما ستكون له تداعيات كبيرة على مستقبل سوريا في مرحلة ما بعد الأسد.
أبوظبي – منذ رحيل نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، تصاعدت الاشتباكات العسكرية في شمال وشمال شرقي سوريا بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تُعد وحدات حماية الشعب الكردية أكبر مكوناتها، والتي تُسيطر على أجزاء كبيرة من هذه المناطق، وبين تركيا وفصائل سورية عسكرية موالية لها.
وخلال سنوات الحرب في سوريا، استطاعت القوات الكردية، وخاصة وحدات حماية الشعب، تعزيز وجودها في الشمال السوري، مدعومة من الولايات المتحدة، وقد أسست في عام 2015 قوات (قسد) لتصبح الشريك المحلي لقوات التحالف الدولي المناهض لتنظيم داعش، لكن لم تعترف تركيا بهذه القوات الكردية، واعتبرتها امتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه كمنظمة إرهابية، ونفذت ضدها ثلاث عمليات عسكرية في شمالي سوريا ما بين عامي 2016 و2019.
وقد أعادت الاشتباكات الحالية بين المقاتلين الأكراد والفصائل الموالية لأنقرة في شمال وشمال شرقي سوريا، والتي أدت إلى سيطرة هذه الفصائل على مدينتي تل رفعت ومنبج، إلى الواجهة احتمالية شن تركيا عملية عسكرية جديدة ضد الأكراد لإبعادهم عن حدودها الجنوبية، خاصة مع تواصل القتال حول عين العرب “كوباني” والرقة واستمرار الاستهدافات في الحسكة. بيد أن شن مثل هذه العملية قد يتطلب من أنقرة الحصول على موافقة القوى الدولية الموجودة في سوريا، وخاصة الولايات المتحدة الداعم الأكبر لقسد.
محفزات الصدام
في ظل الوجود الكردي المسلح في شمال وشمال شرقي سوريا، تتعدد العوامل التي قد تدفع باتجاه تفاقم الصدام العسكري
يرى الباحث المصري حسين معلوم في تقرير نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أن في ظل الوجود الكردي المسلح في شمال وشمال شرقي سوريا، تتعدد العوامل التي قد تدفع باتجاه تفاقم الصدام العسكري التركي – الكردي.
وتحظى المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية في شمال وشمال شرقي سوريا، بأهمية إستراتيجية، فهي تُعد “خزان النفط والغاز” في البلاد، وتسيطر قسد على أكبر حقول النفط في سوريا، بما فيها حقلا السويدية ورميلان في محافظة الحسكة، وحقل العمر في محافظة دير الزور.
وكان نظام الأسد يعتمد خلال السنوات الماضية على النفط الإيراني في ظل العقوبات التي فُرضت على دمشق بموجب “قانون قيصر” الأميركي. وبعد رحيل هذا النظام، من المُرجح توقف إمدادات النفط الإيرانية، ومن ثم قد تبرز الحاجة إلى توافق الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع مع قسد لإعادة تأهيل قطاع النفط السوري كي يفي باحتياجات البلاد.
ومنذ نحو شهر تقريبا، تصاعدت المواجهات العسكرية بين فصائل عملية “فجر الحرية”، بـ”الجيش الوطني السوري” الموالي لتركيا، وبين قسد في شمال وشمال شرقي سوريا، وتمكنت خلالها هذه الفصائل من السيطرة على مدينتي تل رفعت ومنبج، وتخطط للسيطرة على الرقة والحسكة، وإنهاء وجود قسد قرب حدود تركيا الجنوبية، ومن ثم فإن استمرار التدخلات العسكرية التركية في المستقبل، بعد رحيل نظام الأسد، يمكن أن يكون جزءا من إستراتيجية أنقرة لإعادة تشكيل مناطق النفوذ في الشمال السوري، بما يتناسب مع مصالحها.
أهداف أنقرة
تتعدد الدوافع التركية في مواصلة المواجهات العسكرية مع أكراد سوريا، سواء بتأثير العوامل الداخلية أم الخارجية. وتخشى أنقرة من أن يؤدي قيام كيان كردي في شمالي سوريا إلى تحفيز الأكراد داخل تركيا على المطالبة بالمزيد من الحقوق أو حتى السعي إلى الانفصال، لذا، فإن منع قيام دولة كردية أو جسم مستقل في سوريا يمثل أولوية قصوى بالنسبة لحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، والتي ترى في وجود كيان كردي على حدودها الجنوبية تهديدا مباشرا لوحدة أراضيها.
وفي هذا الإطار، تعهد أردوغان في الخامس والعشرين من ديسمبر الماضي بـ”دفن مقاتلي الوحدات الكردية أحياء في الأراضي السورية، إذا لم يتركوا أسلحتهم”، مضيفا “سنحقق هدفنا، المتمثل في جعل تركيا خالية من الإرهاب خلال الفترة المقبلة باستخدام جميع الأدوات المتاحة لدولتنا.”
وفي الثامن والعشرين من ديسمبر الماضي، أعاد أردوغان التأكيد أن بلاده ستستهل عام 2025 بخطوات جديدة لتعزيز أمن حدودها الجنوبية والقضاء على “التهديدات الإرهابية الخارجية”.
وتسعى تركيا إلى أن يكون لها دور ريادي في إعادة تشكيل مستقبل سوريا بعد رحيل نظام الأسد، وترى أنقرة أن وجود كيان كردي قوي في سوريا قد يُقلل من نفوذها الإقليمي، ويحد من قدرتها على التأثير في مسار الحل السياسي في سوريا، لذا، فإن الصدام مع الأكراد قد يكون جزءا من إستراتيجية تركيا، لضمان دورها المستقبلي في سوريا تحديدا وفي الشرق الأوسط بشكل عام.
وليست مسألة الصدام مع الأكراد فقط قضية خارجية بالنسبة لتركيا، بل إن لها أبعادا تتعلق بالاعتبارات الداخلية لحكومة أردوغان. وفي ضوء التوترات المتزايدة مع حزب العمال الكردستاني (المُصنف إرهابيا لدى أنقرة)، والضغوط السياسية الداخلية، ربما ترى الحكومة التركية في الصدام مع أكراد سوريا، وسيلة لحشد الدعم الشعبي وتعزيز موقفها الداخلي.
موقف قسد
تواجه قوات سوريا الديمقراطية قسد تحديات متزايدة من عدة جهات، أبرزها تركيا التي ترى فيها تهديدا مباشرا لأمنها القومي، وكذلك من الإدارة السورية الجديدة في مرحلة ما بعد الأسد.
ولا تزال تركيا تحتفظ بوجود عسكري كبير في مناطق شمالي سوريا، ما يشكل تهديدا مستمرا لسيطرة قسد، حيث يمكن لأنقرة تنفيذ المزيد من العمليات العسكرية لتعزيز نفوذها وإضعاف الوجود الكردي على حدودها الجنوبية. كما أن تركيا قد تحاول ممارسة ضغوط على الولايات المتحدة للحد من دعمها العسكري والسياسي لقسد. ومن المتوقع أيضا أن تحاول تركيا فرض ترتيبات سياسية في سوريا الجديدة، تتضمن تهميش قسد وإضعافها. وقد تتعرض هذه القوات الكردية للضغوط لقبول تسويات سياسية، تفرض عليها التنازل عن مكاسبها التي حققتها خلال السنوات الماضية في شمال وشمال شرقي سوريا. وستحاول أنقرة فرض سياسات تُقصي هؤلاء الأكراد، وتمنعهم من تحقيق أي دور فاعل في المستقبل السوري.
وبعد رحيل نظام الأسد، تحظى الحكومة الانتقالية في سوريا بدعم قوي من تركيا، ومن ثم تواجه قسد تحديات جديدة تتعلق بالصراع على النفوذ في الشمال السوري، حيث تعمل الفصائل السورية المدعومة من أنقرة على استعادة السيطرة على مناطق تخضع حاليا لسيطرة قسد، عبر الوسائل العسكرية، وهو ما تشير إليه المواجهات المستمرة بين هذه الفصائل وقسد.
وفي ظل هذه التحديات والأوضاع الجديدة لتوازن القوى حاليا في سوريا، وخاصة بالنسبة لتزايد النفوذ التركي، يبدو أن خيارات قسد في مواجهة الضغوط والتهديدات الراهنة أصبحت محدودة، ويأتي على رأس هذه الخيارات الحفاظ على دعم واشنطن لها.
وتُعد الولايات المتحدة أهم حليف دولي لقسد، ومن ثم يمكن للأخيرة العمل على تعزيز علاقاتها مع واشنطن والدول الغربية الأخرى، من خلال تأكيد دورها كقوة فعالة في محاربة التنظيمات الإرهابية في سوريا وبصفة خاصة تنظيم داعش. وقد يوفر استمرار هذا الدعم الأميركي لقسد ضمانة لبقائها كقوة مؤثرة في المشهد السوري. ويمكن لقسد التوجه نحو بناء تحالفات مع فصائل محلية سورية أخرى، تعارض التدخل التركي، أو تسعى لتحقيق الاستقلال عن التأثيرات الخارجية.
وفي ظل الضغوط الكبيرة التي تواجهها قسد، قد تضطر إلى تقديم تنازلات تكتيكية على الصعيدين السياسي والميداني. وهذه التنازلات قد تشمل الموافقة على تقليص دورها العسكري مقابل ضمانات سياسية، أو تقديم بعض التنازلات للإدارة السورية الجديدة وكذلك أنقرة في إطار تسوية سياسية شاملة، ومن ثم قد تحاول قسد فتح قنوات حوار مع الشرع، على أمل التوصل إلى تسوية سياسية تضمن لها حكما ذاتيا أو قدرا من الاستقلالية داخل سوريا.
وفي هذا الإطار، التقى الشرع يوم الثلاثين من ديسمبر الماضي وفدا من قسد في أول محادثات يجريها مع قادة أكراد منذ الإطاحة بنظام الأسد، وكشفت تقارير إعلامية عن أن هذا الاجتماع كان لقاء تمهيديا لوضع أساس للحوار المستقبلي بين الجانبين.
وكان الشرع قد استبق هذا اللقاء بتصريحات له في التاسع والعشرين من ديسمبر الماضي، مفادها أن القوات الكردية ينبغي أن تنضوي تحت لواء الجيش السوري الموحد، وقال “ينبغي أن يكون السلاح بيد الدولة فقط، ومن كان مسلحا ومؤهلا للدخول في وزارة الدفاع سنرحب به”، مضيفا “على هذه الشروط والضوابط نفتح حوارا تفاوضيا مع قسد.” كما أعلن القائد العسكري لهيئة تحرير الشام مرهف أبوقصرة في السابع عشر من ديسمبر الماضي أن سيطرة السلطة الانتقالية ستشمل مناطق القوات الكردية في شمال شرقي سوريا.
ومن جانبه، أكد قائد قسد مظلوم عبدي في السابع والعشرين من ديسمبر الماضي، استعداده للاندماج في الجيش السوري الجديد بعد الاتفاق على “صيغة مناسبة عبر التفاوض”، مشددا على ضرورة أن تبقى سوريا بلدا موحدا، لكن تحديد شكل نظامها السياسي “متروك لإرادة الشعب السوري والنقاشات الدستورية.”
وفي إطار المرونة التي تسعى قسد لإظهارها، سبق أن أعلن “مجلس سوريا الديمقراطية”، الجناح السياسي للإدارة الذاتية وقوات قسد، في الثاني والعشرين من ديسمبر الماضي، الاستعداد للحوار مع تركيا.