تركيا في القرن الأفريقي: ما لا تحققه المساعدات قد تأتي به الفوضى

يقدم إعلان جهاز الاستخبارات والأمن الوطني في إثيوبيا عن إحباط محاولة تهريب لأسلحة تركية إلى البلاد دليلا جديدا على سياسات نشر الفوضى واستهداف استقرار الدول التي تنتهجها تركيا لتحقيق أهدافها، وهي سياسية لا تفرّق فيها أنقرة بين الدول التي تتفاخر بعلاقتها الجيدة معها والدول التي تناصبها العداء.
القاهرة – تحمل خرائط التفاعلات الإقليمية الكثير من التناقضات. ففي الوقت الذي تعكس فيه انسجاما ظاهرا بين بعض الدول، يدور صراع خفي يتعلق بالسيطرة والنفوذ والقدرة على التحكم في المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية. لذلك يكشف المزيد من الخوض في تفاصيل العلاقات بين الدول بعض الأوجه المتعددة وغير معروفة لكثيرين.
يبيّن التوقف عند الحالة الراهنة بين تركيا وإثيوبيا، وما وصلت إليه من تطورات، لماذا أنقرة القريبة سياسيّا من أديس أبابا تعمل ضد مصالحها الأمنية، وكيف تستطيع مدّ خيوطها الإيجابية للتعاون ونسج حيلها السلبية للتخريب في الوقت نفسه، وهل هذه الازدواجية مبرّرة أم من ورائها أغراض لا تريد أنقرة الإفصاح عنها؟
أصبحت هذه الأسئلة تتردد كثيرا في الأروقة الإثيوبية بعد إعلان أديس أبابا مؤخرا إحباط أكبر وأخطر عملية تهريب أسلحة قادمة من تركيا إلى الأراضي الإثيوبية، وهي ليست الأولى من نوعها فقد سبقتها عمليات أخرى، ربما كانت أقلّ في النوعية والكمية والارتدادات السياسية، لكنها وصلت بالفعل وتمّ اكتشاف أمرها والمكان الذي جاءت منه، وهو أيضا تركيا.
وأكد جهاز الاستخبارات والأمن الوطني في إثيوبيا قبل أيام ضبط معدّات مخبأة وسط أجهزة إلكترونية عبر شبكات تهريب دولية من خلال حاويتين تم شحنهما في ميناء مرسين التركي إلى ميناء جيبوتي، وبقيت هذه المعدات خمسة أشهر للتمويه كي يتسنّى تسريبها إلى الأراضي الإثيوبية والقيام بعمليات تخريبية تستغل النزاعات القبلية التي تتفجر من حين إلى آخر، واعتقلت الاستخبارات 24 شخصا من جنسيات مختلفة كانوا ينوون توزيع الأسلحة في عدة أقاليم لتأجيج الصراعات القبلية.
حذّرت أديس أديس أبابا الحكومة التركية أكثر من مرة بسبب هذه التصرفات، وطالبتها بوقف تهريب الأسلحة إليها، وقررت تطوير التعاون مع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في كل من جيبوتي والسودان المجاورتين لكشف الخيوط الرئيسية التي جعلت إثيوبيا مستهدفة بهذه الوتيرة، وتكثيف الملاحقة لأعضاء يشاركون في شبكة عالمية بدأت تمثّل إزعاجا للحكومة، وسط بيئة محلية وإقليمية تمارس العنف منذ فترة، أو مهيأة لممارسته.
تفسيرات سياسية
لم تقدّم أنقرة تفسيرات ملموسة لأديس أبابا حول كيف، ولماذا تسرّبت هذه الأسلحة؟ وتحاول تجاهل الأمر كأنها ليست معنية به، أو لا تريد تسليط الأضواء عليه، وهو ما أثار حيرة بعض الدوائر الإثيوبية التي كانت تتطلع إلى زيادة مساحة التعاون مع والانفتاح على تركيا، والاستفادة من خصومتها مع مصر في تعزيز إمكانيات الحكومة الإثيوبية، حال ارتفعت حدّة الأزمة بين القاهرة وأديس أبابا، وخرجت عن إطار الضوابط السياسية والفنية.
منعت الروابط القوية بين أديس أبابا وأنقرة تحميل تركيا المسؤولية مباشرة عن الشحنة الكبيرة على أمل جمع الكثير من المعلومات التي تثبت تورّط أو براءة نظام الرئيس رجب طيب أردوغان في عمليات التهريب، أو البحث عن صيغة معتدلة تحفظ ماء وجه أنقرة، لأنه لا يستقيم حرصها على تطوير العلاقات والعمل على خلق متاعب جديدة لإثيوبيا في ملف قبلي ومناطقي تحاول سد الثغرات التي تؤدي إلى تفجيره، فما هي مصلحة تركيا؟
تملك أنقرة مجموعة كبيرة من الدوافع والمصالح التي تجعلها لا تتورّع عن مضايقة أديس أبابا مستقبلا، وفي الحدود التي تحافظ على درجة معقولة من القواعد المتماسكة حاليا، فالإمعان في طبيعة النظام التركي الأيديولوجية، وعلاقاته المتطورة في منطقة القرن الأفريقي، يقودان بسهولة إلى عدم استبعاد حدوث صدام مع إثيوبيا.
أينما وجد الأمن والسلام يخفت نجم تركيا، وهو ما يجعلها مضطرة إلى إعلاء قيمة نشر العنف والإرهاب داخل الدول الصديقة
تضم إثيوبيا نسبة من المسلمين، تصل إلى نصف السكان تقريبا، ولا يعاني هؤلاء من مشكلة هيكلية في العلاقة مع النصف المسيحي من عدد السكان، لكن هناك أزمة محتدمة على الصعيد المناطقي، كما أن جيوب التيارات الإسلامية لم تتغلغل في المجتمع كثيرا مقارنة بدول مجاورة، ويحافظ على علمانيته التي تسعى حكومة آبي أحمد إلى ترسيخها، وقطع الطريق على الحركات الأيديولوجية قبل أن تستفحل وتجد نفسها في مواجهة محتومة مع الدولة.
إذا مضت الأوضاع وفقا للسيناريوهات المرسومة لإثيوبيا، من نهضة اقتصادية وسياسية واستقرار أمني واسع، ستغلق الأبواب أمام من يريدون توظيف النزاعات الداخلية، وتتحول إثيوبيا إلى دولة إقليمية قوية، ترفض أن تكون تابعة لأي من الجهات الخارجية، أو تدخل في تحالفات غير متكافئة أو يتم استثمار موقعها، لأن أديس أبابا لديها، بالتوازي مع أنقرة، علاقات جيدة مع كل من السعودية والإمارات، وعلاقتها ليست على ما يرام مع مصر.
تفضي بعض التحركات السياسية في المنطقة إلى شد وجذب بين أديس أبابا وبعض القوى القريبة منها، لكنها لم تتسبب في تعكير صفوها مثلا مع الرياض أو أبوظبي، ما يعني أنها ظلت بعيدة عن حسابات أنقرة حتى الآن، وكلما قويت شكيمة إثيوبيا رفضت الرضوخ لأي ابتزازات تركية أو قبول بتصرفاتها المريبة على المستوى الإقليمي، عقب نجاح أنقرة في تشييد قاعدة عسكرية في الصومال، والرغبة في تعزيز التعاون مع كل من جيبوتي وإريتريا.
استثمار في الصراعات
من هذه الزاوية قد تأتي المفاجآت، لأن تركيا تعتزم أن تجعل من منطقة القرن الأفريقي ركيزة لها ضمن ركائز القوة التي تطمح إليها، عسكريا واقتصاديا وسياسيا، لأن هذه المنطقة غاية في الأهمية، وشريان تتجاوز حيويته حدود التجارة العالمية التقليدية إلى تعظيم المكاسب الاستراتيجية بعد تحولها إلى نقطة جذب لقوى مختلفة من داخلها وخارجها، ووجود مشروعات تربط بين التنمية والسلام وجدت أصداء عند زعماء وشعوب المنطقة.
تقود هذه المعطيات إلى تنحية المشروعات التوسعية التي باتت جزءا من المخزون الذي تتوالى التقارير حول تطوراتها، وتضع تركيا في مقدمة الدول الساعية إلى القبض على زمام هذه المنطقة، ما يؤثر على طموحات إثيوبيا الإقليمية التي تعتبر القرن الأفريقي فضاء حيويا لها، ولا تريد أن ترى فيه قوة مجاورة لديها مقومات عسكرية تناطحها القيادة، فما بالنا إذا كانت هذه القوة من خارج الإقليم، وتعمل بكل قوة لمراكمة أوراقها.
تدرك أنقرة هذه الحسابات العميقة للدرجة التي جعلت من علاقاتها الجيدة مع أديس أبابا مدخلا لعدم التعجيل بالصدام، وهي تعتقد أن المساعدات الاقتصادية والاتفاقيات العسكرية التي عقدتها خلال السنوات الماضية كفيلة بكسب ود إثيوبيا، ربما يكون هذا صحيح بالمقاييس النظرية، أو عندما يشتد المرض على دول المنطقة، ويشمل أكبر دولة فيها، وهي إثيوبيا التي يعدّ تعافيها تهديدا يخيّم على كثير من تطلعات تركيا في القرن الأفريقي، ما يجعل انتشار الصراعات والحروب أهم أدوات القوة المادية في أجندة أنقرة.
من هنا يمكن فهم أسباب إرسال السفن التركية المحملة بالمعدّات العسكرية إلى المنطقة، ومنها إلى إثيوبيا، فالنيل من هذه الدولة بالمناكفات والتجاذبات الداخلية من أهم العوامل التي تضمن لأنقرة تفوّقا نوعيا في القرن الأفريقي، وتبعد أبرز خصومها المحتملين عن تقويض نفوذها.
درجت أنقرة على توظيف الصراعات وتسخيرها في صالح أهدافها، حدث ذلك في سوريا والعراق وليبيا، وبدأ مشروعها في الصومال من محطة استغلال التوترات المستمرة، وأصبح الاستقرار يمثّل عدوّا ضخما لحلفائها من القوى الإسلاموية، فأينما وجد الأمن والسلام يخفت نجم تركيا، والعكس، وهو ما يجعلها مضطرة إلى إعلاء قيمة نشر العنف والإرهاب داخل الدول الصديقة، وبينها إثيوبيا، طالما أنه يتوافق مع أغراضها.
تعلي إثيوبيا من شأن الوقت، وتضعه ضمن أدوات تنفيذ السياسة الخارجية، ولا تستعجل حكومتها الدخول في صدامات إقليمية قبل أن تكون الأجواء المحلية مهيأة، وبدأ تدفق شحنات الأسلحة التركية إلى أراضيها يثير الكثير من الغضب والحنق على أنقرة في الوقت الراهن، ويطرح أسئلة دقيقة حول أهمية العلاقات الجيدة ما لم تكن عاصما من الشدائد، ويبدو أن تركيا على وشك الدخول في مرحلة الشدة، إذا صمّمت على نشر التوترات في إثيوبيا، وواصلت العبث بأمنها كي تضع لها قدما في دول حوض النيل.