تركيا تتطلع إلى الطاقة لتأمين استقلالها الإستراتيجي

أنقرة ترى في الديناميكيات الإقليمية المتغيرة فرصة لتصبح مركزا إقليميا للطاقة.
الخميس 2025/03/06
تطلعات طموحة لا تخلو من عقبات

كان التحول إلى مركز إقليمي للطاقة منذ فترة طويلة جزءا رئيسيا من سعي تركيا إلى الاستقلال الإستراتيجي، وهو هدف طموح لبلد يتمتع بموارد هيدروكربونية محدودة للغاية.

إسطنبول - لسنوات عديدة، تصور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن جعل تركيا تعتمد على نفسها يعني أن تسير بمفردها. وفي حين كانت تسعى إلى ما أسماه المسؤولون الأتراك “سياسة خارجية وطنية حازمة”، تسببت أنقرة في توتر العلاقات مع حلفائها الغربيين وشركائها في الشرق الأوسط، مما جعل تركيا ضعيفة للغاية لتحقيق أهدافها.

ويدرك أردوغان الآن أن الطريق إلى الاستقلال الإستراتيجي يتطلب بناء الجسور مع الحلفاء والأعداء على حد سواء. ومن المجالات التي قد تكون مفيدة في بناء التحالفات هو قطاع الطاقة.

وتعد تركيا واحدة من أكبر مستهلكي الطاقة في العالم، لكنها فقيرة في الموارد الطبيعية. وهي تعتمد على روسيا وجيران مثل العراق وإيران لتلبية احتياجاتها من الطاقة، وهذا الاعتماد يخلق نقاط ضعف.

وللتغلب على هذه التحديات وتعزيز موقف أنقرة، سعى أردوغان إلى وضع تركيا كمركز للطاقة، وربط منتجي الغاز الطبيعي في شرقها وجنوبها بالأسواق في الغرب.

ويمنح الموقع الجغرافي والبنية الأساسية لتركيا ميزة في هذا الصدد، لكن احتلال موقع مفيد لا يعفي أنقرة من الاضطرار إلى إزالة الغبار عن نهج سياستها الخارجية المهجور منذ فترة طويلة “صفر مشاكل مع الجيران” والغرب.

تبدو أنقرة عازمة على الاستفادة من أصولها لتضع نفسها كلاعب رئيسي في مجال الطاقة، وقد يمكّنها السياق الإقليمي الحالي من القيام بذلك

وتقول الباحثة غونول تول في تقرير نشره معهد الشرق الأوسط إن في خضم الديناميكيات الإقليمية المتغيرة، ترى أنقرة فرصة لتحقيق ذلك وإحياء خططها لتصبح مركزا للطاقة.

ولطالما سعى صناع السياسات الأتراك إلى تحقيق سياسة خارجية مستقلة. ولكن خلال الانتفاضات العربية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت هذه السياسة المبدأ التوجيهي لنهج حزب العدالة والتنمية الحاكم تجاه العالم. ولم تسع تركيا إلى الاستقلال عن الغرب فحسب، بل سعت أيضا إلى اكتساب نفوذ أكبر في المنطقة. كما انتهجت سياسة خارجية قوية ومن جانب واحد. فقد شنت تركيا توغلات عسكرية في سوريا، وأرسلت إمدادات عسكرية ومقاتلين إلى ليبيا، ونشرت بحريتها في شرق البحر المتوسط لتأكيد المطالبات الإقليمية التركية، ووسعت عملياتها العسكرية ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. وبحلول عام 2020، أصبحت البصمة العسكرية التركية هي الأكثر توسعا منذ أيام الإمبراطورية العثمانية.

وكانت هذه السياسة الجديدة بعيدة كل البعد عن التركيز التركي السابق على الدبلوماسية والتجارة والمشاركة الثقافية في علاقاتها الخارجية.

وكان أحد ضحايا هذا النهج هو حلم أردوغان طويل الأمد بتحويل تركيا إلى مركز للطاقة حيث لا يتم نقل موارد الطاقة فحسب بل يتم شراؤها وبيعها أيضا من قبل أطراف خارجية، مما يخلق اعتمادا متبادلا مع الدول الغربية والدول الإقليمية فضلا عن تعزيز مكانة تركيا كقوة إقليمية. لكن السياسة الخارجية العدوانية لأنقرة أعاقت الأمر وجعلت طموحاتها في مجال الطاقة مستحيلة التحقيق.

والعراق، أحد أكبر موردي النفط لتركيا، والذي يفتخر أيضا باحتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، هو أحد الأمثلة حيث أدت سياسات أنقرة إلى توتر العلاقات الثنائية.

وفي عام 2013، بدأت تركيا في تسهيل صادرات النفط من حكومة إقليم كردستان العراق دون موافقة بغداد، في انتهاك لاتفاقية خط الأنابيب بين العراق وتركيا لعام 1973.

وكانت العلاقات بالفعل تحت الضغط بسبب العمليات العسكرية التركية عبر الحدود ضد مقر حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، فضلا عن المنافسة على النفوذ هناك مع إيران.

وبعد عام واحد، تقدم العراق بطلب تحكيم لدى غرفة التجارة الدولية ومقرها باريس بشأن دور تركيا.

أردوغان يدرك الآن أن الطريق إلى الاستقلال الإستراتيجي يتطلب بناء الجسور مع الحلفاء والأعداء على حد سواء
أردوغان يدرك الآن أن الطريق إلى الاستقلال الإستراتيجي يتطلب بناء الجسور مع الحلفاء والأعداء على حد سواء

وحكمت الغرفة لصالح العراق وقررت أن تدفع تركيا 1.5 مليار دولار كتعويض. وفي نوبة غضب، اختارت أنقرة وقف واردات النفط من العراق على أمل إجبار بغداد على رفض الحكم ووقف قضية ثانية أمام المحكمة الجنائية الدولية لا تزال قيد الإعداد.

ومنذ ذلك الحين، علقت القضية في خضم النزاعات الداخلية العراقية بين الأكراد والحكومة المركزية، فضلا عن التنافسات الإقليمية بين تركيا والعراق وإيران. وكانت النتيجة انقطاع تدفقات النفط العراقي عبر تركيا لمدة عامين، الأمر الذي أضر بالجميع اقتصاديا، لكنه أفاد بغداد وطهران سياسيا.

وفي شرق المتوسط، وهي منطقة أخرى بالغة الأهمية لطموحات الطاقة التركية، أدت أخطاء السياسة الخارجية التي ارتكبتها أنقرة أيضا إلى تشكيل جبهة معادية لتركيا. وأدى دعم تركيا للانتفاضات العربية، وخاصة اصطفافها مع الحركات الإسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين، إلى توتر العلاقات مع القوى الإقليمية مثل مصر، التي نظرت إلى الحركات باعتبارها تهديدات لأنظمتها. كما أدت التدخلات العسكرية أحادية الجانب التي قامت بها تركيا لاحقا في سوريا، ثم في ليبيا، إلى جانب سياساتها الحازمة في شرق المتوسط، إلى تفاقم التوترات. وأبرزت هذه التحديات أن تركيا لا يمكنها تحقيق الحكم الذاتي الحقيقي إلا من خلال التعاون وليس العزلة والعمل أحادي الجانب.

تركيا تعد واحدة من أكبر مستهلكي الطاقة في العالم، لكنها فقيرة في الموارد الطبيعية. وهي تعتمد على روسيا وجيران مثل العراق وإيران لتلبية احتياجاتها

وقد اتخذت أنقرة بالفعل خطوات لإصلاح العلاقات مع العديد من البلدان، لكنها تعتقد أن السياق الإقليمي الحالي يوفر فرصة فريدة للبناء على هذه الخطوات لتحويل البلاد إلى مركز إقليمي للطاقة.

وشكل سقوط نظام بشار الأسد في سوريا تحولا كبيرا في ميزان القوى في الشرق الأوسط. فقد أدت الضربات الإسرائيلية ضد إيران ووكلائها في أعقاب هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 إلى تقليص نفوذ إيران بالفعل، في حين أدى الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في فبراير 2022 إلى استنزاف مواردها وتقليص التزاماتها تجاه سوريا. كما وجهت الإطاحة بالأسد ضربة أخرى لطهران وموسكو.

وسوف تكون للتحركات التي تقوم بها الولايات المتحدة أيضا آثار كبيرة على ميزان القوى الإقليمي، بما في ذلك الإعلان عن نهاية مهمة التحالف في العراق في سبتمبر 2025 والانسحاب المحتمل للقوات من سوريا.

وتشير هذه التطورات إلى أن ديناميكية قوة جديدة تتشكل في الشرق الأوسط، مع تقلص الدور الروسي والإيراني والأميركي. وترى أنقرة في هذا فرصة لتحقيق أهدافها الإستراتيجية، بما في ذلك في قطاع الطاقة. ويؤدي ضعف إيران والانسحاب الأميركي الوشيك بالفعل إلى تحويل الديناميكيات في العراق إلى صالح تركيا.

وتأمل تركيا أيضا في الاستفادة من الديناميكيات الإقليمية المتغيرة لجني الفوائد في شرق المتوسط لسياساتها في مجال الطاقة. وهي على استعداد للعب دور رئيسي في سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد من قبل مجموعة قريبة من أنقرة.

وفي أواخر ديسمبر، أعلن وزير النقل التركي أن تركيا ستوقّع اتفاقية مع سوريا لإنشاء منطقة اقتصادية خالصة. وهذه خطوة مهمة لعكس سياسات عهد الأسد التي قوضت مصالح تركيا في مجال الطاقة من خلال رفض مطالبات أنقرة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة والتحالف مع الكتلة المناهضة لتركيا في المنطقة. وقبل طرد الأسد، منحت دمشق موسكو حق الوصول إلى حقوق التنقيب عن الطاقة البحرية في مياهها الإقليمية، مما أدى إلى تعقيد الأمور بالنسبة لأنقرة.

في خضم الديناميكيات الإقليمية المتغيرة، ترى أنقرة فرصة لتحقيق خططها لتصبح مركزا للطاقة

ومن خلال التوقيع على اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة مع حكام سوريا الجدد، تأمل تركيا في توسيع نطاق ولايتها البحرية لاستكشاف الهيدروكربون، وهي الخطوة التي قد تمنحها إمكانية الوصول إلى احتياطيات الغاز الطبيعي والنفط غير المستغلة في المنطقة.

وتريد أنقرة كذلك بناء خطوط أنابيب جديدة للنفط والغاز تربط سوريا بمحطات التصدير التركية. وأعرب وزير الطاقة التركي عن تفاؤله بأن سقوط الأسد من شأنه أن يحيي مشروع خط الأنابيب المجمد منذ فترة طويلة والذي يربط تركيا وقطر عبر المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا.

ودفعت تركيا من أجل المشروع لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي وتعزيز طموحاتها لتصبح مركزا للطاقة، لكن الأسد رفضه بسبب المعارضة الروسية. وتضع التحركات الأخيرة أنقرة في موقع اللاعب الرئيسي في الجهود الأوروبية الرامية إلى الحد من الاعتماد على الطاقة الروسية وتقديم خيار جذاب من الناحية الفنية والمالية للدول الإقليمية لتصدير طاقتها إلى أوروبا.

وللاستفادة من ضعف روسيا وإيران، اتخذت تركيا مؤخرا خطوة أخرى لتعزيز طموحاتها في مجال الطاقة. فقد سعت منذ فترة طويلة إلى جلب غاز تركمانستان إلى أوروبا عبر أراضيها، لكن الاعتراضات الروسية والإيرانية أعاقت الخطة.

وفي منتصف فبراير وقعت تركيا وتركمانستان أخيرا اتفاقية تاريخية لبدء تدفق الغاز التركماني، والذي سيتم نقله عبر إطار الغاز الطبيعي الإيراني الحالي، وهو ما عارضته طهران في السابق. ولسوء حظ روسيا، تعمل تركيا أيضا على مشروع منفصل لبناء خط أنابيب للغاز عبر بحر قزوين من تركمانستان إلى أذربيجان ثم إلى تركيا.

وعلى الرغم من هذه التحديات، يعتقد المسؤولون الأتراك أنه ليس لديهم خيار سوى أن يصبحوا مركزا للطاقة. وهم يعتقدون بأن في خضم الصراع بين الدول على القوة والنفوذ في عالم اليوم غير المؤكد، فإن الطاقة مهمة بقدر القوة الاقتصادية والعسكرية. وتبدو أنقرة عازمة على الاستفادة من أصولها لتضع نفسها كلاعب رئيسي في مجال الطاقة، وقد يمكّنها السياق الإقليمي الحالي من القيام بذلك.

6