تركمان سوريا ضحية عنف النظام ومشاريع أنقرة وأطماع الأكراد وإرهاب داعش

قضية أقلية التركمان، أحدث الأوراق التي أخرجتها تركيا من أدراج تاريخها العثماني لتراهن بها على دورها في سوريا؛ فيما يؤكّد السوريون أن قضية تركمان سوريا ليست الشغل الشاغل لتركيا، بل هي تستخدمها للتستّر على أهداف جيو سياسية تتعلق بالمنطقة الممتدة من جرابلس إلى أعزاز وريف حلب الشمالي وريف إدلب.
الجمعة 2015/12/18
دوافع سياسية لا إنسانية وراء دفاع تركيا عن تركمان سوريا

في مرحلة مبكّرة من الثورة، عمل النظام السوري بجهد للسيطرة على المنطقة التي تقع بين مدينة اللاذقية، والتي تُعتبر مركز ثقله البشري، وبين الجارة الشمالية تركيا التي تدعم المعارضة السورية، وهي منطقة تضم غالبية من التركمان السوريين. لكن أهالي المنطقة وقفوا بوجه النظام وانخرطوا في الثورة حالهم كحال الكثير من المناطق والمدن السورية ممن كانت يعاني من تهميش وممارسات تمييزية وفقدان للحقوق.

ونظرا للأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة بالنسبة للنظام وخوفا من تمدد النفوذ التركي فيها، تعامل مع المنتفضين في تلك المنطقة بالذات بعنف زائد. واستخدم سلاح الطيران والقصف العشوائي لتلقين التركمان المعارضين درسا قاسيا ولإفهام تركيا أنها لن تحصل على تلك المنطقة بسهولة.

على الضفة الأخرى، وجدت تركيا في تركمان سوريا ورقة أو “حجّة” إضافية تبُرر تدخلها في الأزمة السورية ومسارها، وتحدثت كثيرا عن مسؤوليتها عن حمايتهم وإنقاذهم من عنف النظام بداية، ولاحقا من عنف تنظيم الدولة الإسلامية، ومؤخرا من اعتداء ميليشيات كردية تقوم بعمليات تطهير قومي في شمال سوريا حيث يتواجد الكثير من التركمان. بينما هي تريد استخدامهم لقطع الطريق أمام تشكيل منطقة كردية متواصلة على طول الشمال السوري، فوقع التركمان ضحية هذا الرباعي، النظام السوري وتركيا والميليشيات الكردية وتنظيم الدولة الإرهابي، ودفعوا ثمن مشاريع كل واحد منهم.

التحول للعمل المسلح

بعد سنة من بدء الثورة السورية، ومع زيادة عنف النظام وانتقال المعارضة للعمل المسلّح، شكّلت الأقلية التركمانية السورية كتائب ثورية للدفاع عن نفسها في مناطق وجودها في الشمال السوري، في اللاذقية وحلب وحمص والرقة وغيرها، كلواء السلطان عبدالحميد ولواء نور الدين زنكي ولواء الظاهر بيبرس ولواء السلطان محمد الفاتح وفرقة السلطان مراد ولواء سليم الأول وغيرها. وشاركوا الكتائب المسلحة المعارضة الأخرى القتال جنبا إلى جنب ضد قوات النظام والقوات الإيرانية وتنظيم الدولة الإسلامية. ورغم أنهم شددوا على اعتدالهم وخاضوا معارك شرسة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن ضرورات المعارك دفعت بعض الكتائب التركمانية لمشاركة جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة في المعارك وهذا ما يُحسب ضدها.

تركيا تريد استخدام تركمان سوريا لقطع الطريق أمام تشكيل منطقة كردية متواصلة على طول الشمال السوري

خسر النظام السوري قبل ثلاث سنوات، وتحديدا في صيف عام 2012، كل المنطقة التي يتواجد بها التركمان شمال غرب سوريا والتي يُطلق عليها التركمان اسم بايربوجاق، وهي منطقة تحاذي لواء إسكندرون، الذي ضمّته تركيا لها عام 1939، وبات يحمل اسم “محافظة هاتاي”. لتتصاعد منذ ذلك التاريخ الهجمات التي شنها النظام على قرى المنطقة. كما تعرّض التركمان في محافظة الرقة لانتهاكات جسيمة من قبل مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، وفي مرحلة لاحقة طردتهم وحدات الحماية الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، كما طردت العرب والآشوريين لتغيير التركيبة السكانية لشمال سوريا.

لم يستطع النظام السوري هزيمة التركمان خاصة في جبل التركمان، الذي يضم 27 قرية تجمع ما يزيد عن 80 ألف تركماني، فبأس التركمان كان شديدا، والسلاح متوفر من تركيا وغيرها.

ورغم فشل النظام إلا أن عشرات الآلاف من أهالي المنطقة أُرغموا على اللجوء إلى تركيا نتيجة القصف المتكرر لقوات النظام على قراهم، وقصف روسيا لهم رغم عدم وجود تنظيم الدولة الإسلامية في تلك المنطقة.

تشدد القوى العسكرية التركمانية المعارضة على تمسكها بسوريا وتقول إنها معارضة سورية لا تركية كما توحي أسماء كتائبها، ولا تخفي اعتزازها بعلاقة الصداقة مع تركيا، فيما يُصر التركمان على أنهم شركاء سوريون أصليون.

تركيا تتذكر أنها ضامنة لحقوق التركمان
من يتحدث عن التركيبة الديموغرافية السورية لا يستطيع إلا أن يذكر التركمان، الذين كان لهم دور في تشكيل سوريا ثقافيا وتاريخيا، حيث كان لهم نصيب في الحكم في الدولة الطولونية والسلجوقية والزنكية والمملوكية البحرية وصولا للدولة العثمانية.

في عام 1920 عقدت اتفاقية بين تركيا وفرنسا تعتبر تركيا دولة ضامنة لحقوق التركمان، ولكن لم تُطبق هذه الاتفاقية، بالرغم من كل الظروف التي مروّا بها. ومع الزمن نسي معظم التركمان الذين استقروا في سوريا أصولهم القومية بسبب الضغوط السياسية التمييزية والاختلاط والتزاوج.

وبعد استقلال سوريا لم تعاملهم الحكومات بعدل. وزاد نظام البعث السوري من عزلتهم وتهميشهم، حالهم كحال أكراد سوريا. ويتواجد التركمان في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن، لكن، خلافا للأكراد، لم يطرحوا أي مشروع انفصالي أو مشروع حكم ذاتي.

لا توجد تقديرات واضحة لعدد التركمان في سوريا، البعض يُقدّره بمئة ألف، وآخرون يقدّرونه بثلاثة ملايين، (الأحزاب السياسية التركمانية)، وهم في الواقع قسمان: قسم اندمج مع مكونات المجتمع السوري وصار جزءا منها وبات عربيا سوريا، حاله حال الكثير من السوريين ذوي الأصول الكردية، وهم ينتشرون في معظم المحافظات السورية، وعلى رأسها حلب واللاذقية والرقة وحمص ودمشق والقنيطرة. والقسم الثاني انغلق على نفسه وحافظ على خصائصه ووحدته القومية. ويتركز في القرى التركمانية المنتشرة في شمال سوريا خصوصا، والتي يُقدّر عددها ببضع مئات من القرى، وهؤلاء من ينطبق عليهم التقدير بأنهم نحو مئة ألف تركماني سوري.

ويؤكّد ذلك فهيم عيسى، قائد فرقة السلطان مراد العسكرية المعارضة، الذي قال لـ “العرب”، “نحن فصيل من الجيش السوري الحر، نتصدى لنظام الأسد والميليشيات الطائفية الموالية له، ولتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي الذي يعتبر أخطر التنظيمات الإرهابية الموجود في العالم، ونتصدى كذلك للأكراد الذين يُشكّلون خطرا على سوريا يوازي خطر النظام وخطر تنظيم الدولة الإسلامية، لأن هدفهم تقسيم سوريا وإقامة دولة كردية ونحن نرفض ذلك تماما”.

وأوضح “نحن كتائب تركمانية لكن مقاتلينا من كافة مكونات الشعب السوري، وتربطنا بتركيا علاقات طيبة على كافة المستويات، لكننا سوريون أولا وأخيرا، وسنتصدى لكل قوة خارجية أو داخلية تعمل على شق الصف السوري وإبعاد الثورة عن مسارها، ولأننا أبناء وطن واحد وجيش النظام أخوتنا، سنقوم بمُحاربة كافة أنواع الإرهاب في سوريا صفا واحدا بعد إسقاط النظام، والوصول لسوريا جديدة حرة وديمقراطية”.

ضحية صراع متعدد

يعتقد السوريون على نطاق واسع أن قضية تركمان سوريا ليست الشغل الشاغل لتركيا، بل هي تستخدمها للتستّر على أهداف جيوـ سياسية تتعلق بالمنطقة الممتدة من جرابلس إلى أعزاز وريف حلب الشمالي وريف إدلب. وحاولت أنقرة الاستفادة من الحالة التركمانية وخاصة في الموضوع السوري. وطرحت فكرة إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا لحمايتهم مع غيرهم من السوريين، ولتكون سدا بوجه القوات الكردية كي لا تستطيع السيطرة على كل الشمال السوري. لكن اصطدمت الفكرة التركية بالتدخّل الروسي، الذي سرعان ما بدأ يستهدف المناطق التي يتواجد بها التركمان لقطع الطريق أمام هذه المنطقة الآمنة التي تُقلق النظام وتهدد مناطق الموالين له.

خارطة وضعتها وكالة أنباء الأناضول، المقربة من أردوغان، يبدو فيها التركيز واضحا على محاولة التذكير بـ"تركية" تركمان سوريا
يُعتقد أن هذا السبب بالذات هو ما دفع الجيش التركي لإسقاط مقاتلة روسية في حادثة أوشكت أن تشعل حربا بين البلدين لإيصال رسالة لروسيا بأن عليها وقف قصف واستهداف تركمان سوريا وكتائبهم المسلحة. واحتمت بحلف شمال الأطلسي الذي لم يتجاوب معها كما كانت ترغب. واكتفى بتأييد حق تركيا في الدفاع عن مجالها الجوي. لكنه قال إنه لا يريد مشكلة مع روسيا، ما دفع روسيا لتكثيف ضرباتها بدلا من الارتداع. ومنحت أنقرة دون أن تدري ذريعة جديدة لموسكو لترفع مستوى تدخّلها في سوريا ميدانيا.

لم تُفوّت تركيا مناسبة إلا وأعربت فيها عن تضامنها مع التركمان الذين يعيشون في سوريا. واعتبرت قضية تركمان سوريا قضية وطنية تركية. وسعت لعقد اجتماع لمجلس الأمن لمناقشة القصف المكثف لقرى تركمان سوريا. وطرد وفق تقديرات أحزاب تركمانية نحو عشرة آلاف من التركمان السوريين من ريف حلب وحده، والأمر نفسه مارسه تنظيم الدولة الإسلامية الذي يُركّز على قتال كتائب المعارضة أكثر من تركيزه على مقاتلة النظام، وحاول التمدد باتجاه المناطق التركمانية.

وسط كل هذه الضغوط، استمرّ التركمان بالتأكيد على سوريتهم، وأنهم يريدون العيش في دولة ديمقراطية عادلة حرّة، دولة قانون ومؤسسات، لا دولة فساد وأمن وطائفية.

وأكّد عبدالكريم الآغا، رئيس المنظمة التركمانية السورية، على رفض التركمان المحاصصة رغم أنهم أقلية وقد تضمن لهم المحاصصة نصيبا من الحكم في سوريا المستقبل.

وقال “يريد التركمان من سوريا أن تكون دولة واحدة لجميع مواطنيها، دولة الحرية والعدالة والحياة المدنية، دون تقسيم ولا محاصصة، ليقدموا بذلك نموذجا لبقية مكونات الشعب السوري التي ينبغي عليها أن تحافظ على هوياتها القومية، بقدر ما تتمسك بوحدة التراب السوري والهوية السورية الواحدة”.

لا تريد أنقرة أن تقع بين كمّاشة وحدات الحماية الذاتية الكردية السورية التي يُعتقد على نطاق واسع أنها متعاونة مع النظام السوري في مشروع إعادة بناء وتقاسم شمال غرب سوريا، وعند الضرورة القصوى ليس مستبعدا أن توجّه تركيا مجموعات من المتطوعين القوميين الأتراك لحماية المنطقة ومنع قيام إقليم كردي شمال سوريا. ومن الممكن أن تُفعّل عن الحاجة اتفاقية مونترو للمضائق وتُدخلها حيّز التنفيذ لمنع عبور السفن الروسية للمياه الوطنية التركية، وحجتها هي أنها تدافع عن تركمان سوريا.

ما يجري في شمال سوريا بين تركيا والأكراد والنظام السوري والروس، أزاح الستار عن تركمان سوريا وسلّط الضوء عليهم على اعتبار أنهم أحد المحركات والدوافع الأساسية لما يحدث في تلك المنطقة.

ويأمل التركمان أن نجاح الثورة سيجعلهم ينالون حقوقهم الدستورية والسياسية والثقافية واللغوية والديمقراطية، ويناضلون ويلتصقون بالثورة من أجل الحصول عليها، وخسروا نحو أربعة آلاف مقاتل في الحرب الدائرة منذ أربع سنوات ونصف السنة لهذا الهدف لا لغيره. ويأمل السوريون أن تنتهي أزمتهم قبل أن تدخل هذه الشريحة في متاهات المساومات الإقليمية وتُبعدها عن أصولها.

7