ترقب مصري لرأي الإفتاء في محاكمة باحث في الأديان

اختبار للانفتاح أم محاولة للحصول على صك لتثبيت تهمة الازدراء.
الخميس 2022/03/03
محاكمة مفصلية ترسم توجه دار الإفتاء

كانت تهمة “ازدراء الأديان” سببا في سجن العديد من المفكرين المصريين لسنوات، إلا أنّ إحالة محاكمة الباحث المصري أحمد عبده ماهر إلى دار الإفتاء قد تكون خطوة حاسمة في القطع مع هذا التوجه خاصة بعد ابتعاد الإفتاء عن مؤسسة الأزهر. ففيما تقترب الأولى من سياسات الدولة لتجديد الخطاب الديني ينغلق الثاني على نفسه متمسكا بخطاب ديني يرفض النقاش في التراث الديني.

القاهرة- يعد قرار محكمة مصرية بإحالة قضية الباحث أحمد عبده ماهر إلى دار الإفتاء لاستطلاع رأيها في ازدرائه للدين من عدمه اختبارا لقياس مدى انفتاحها ووسطيتها، لأنها ستقوم بمراجعة كتاب “إضلال الأمة بفقه الأئمة” الذي يُحاكم بسببه ماهر، وتقدم تقريرها إلى المحكمة لتصدر قرارها قبل الثامن عشر من أبريل المقبل، في سابقة أولى بالمحاكم المصرية.

وجاء قرار المحكمة بعد رفض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي التصديق على الحكم الصادر ضد ماهر بالسجن خمس سنوات، في قضية تتعلق بازدراء الأديان بسبب كتابه سابق الذكر، مستندا إلى وجود خطأ قانوني في إجراءات القضية، ما يعني أن دار الإفتاء ستكون الجهة صاحبة الرأي في تأكيد صحة موقف السيسي من عدمه.

محمد أبوحامد: الإفتاء أمامها فرصة ثمينة لتثبت قدرتها على الانفتاح

وإذا انتهت دار الإفتاء لكون الباحث أحمد عبده ماهر ازدرى الدين الإسلامي فالمحكمة قد تصدر حكما ثانيا بمعاقبته بنص المادة 98 من قانون العقوبات بأن يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تتجاوز ألف جنيه لكل من استغلّ الدين في الترويج بالقول أو الكتابة أو بأيّ وسيلة أخرى لأفكار متطرفة، بقصد إثارة الفتنة أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمي إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية.

ويتوقع متابعون للقضية أن ما تنتهي إليه دار الإفتاء سوف يخلق جدلا سياسيا ومجتمعيا، بغض النظر عن اتهامها إليه بأنه ازدرى الدين من عدمه، لأنها ستكون أمام خيارين، إما دعم رؤية السيسي في الاجتهاد والوقوف إلى جانب حرية التفكير والإبداع، وتدخل في مواجهة مع الأزهر باعتباره خصما رئيسيا في القضية، أو تتبنى موقف الأزهر وتدعم رؤيته بأن ما ساقه ماهر ينطوي على إهانة للإسلام.

وفي هذا السياق، أكد الباحث في شؤون الأديان محمد أبوحامد لـ “العرب” أن الأهم من استطلاع رأي الإفتاء في محاكمة باحث إسلامي التفرقة بين نقد الفكر ونقد الدين ذاته، وهذه فرصة ثمينة للمؤسسة الدينية لتثبت قدرتها على الانفتاح والوسطية وتقبل نقد الأفكار لا الحكم على كل مجتهد بتهمة ازدراء الدين، لأن هذا تشويه يضر بالإسلام.

ويتضمن كتاب “إضلال الأمة بفقه الأئمة” انتقادات حادة لآراء ونصوص تراثية وردت في كتب الحديث والفقه التي نقلها الأئمة الأربعة، وطالب المؤلف بنبذ هذه الأفكار والأحكام، متهما الأزهر بأنه يساهم في تشويه الإسلام عبر الاعتراف بروايات مشكوك في صحتها تتعارض مع القرآن والسنة النبوية.

وسبق أن طلبت النيابة العامة رأي مجمّع البحوث الإسلامية بالأزهر حول ما تضمنه الكتاب، وجاء الرد بأن المؤلف ازدرى الدين الإسلامي، لكن ماهر اعترض على ذلك لأنه في خصومة مع الأزهر ولا يجب الاستناد إلى رأيه في كتاب ينتقده ويطعن في رؤيته بشأن تجديد الخطاب الديني وتقديسه للتراث.

◙ كتاب يتضمن انتقادات حادة لآراء ونصوص تراثية وردت في كتب الحديث والفقه التي نقلها الأئمة الأربعة

وتستبعد دوائر سياسية تأثر دار الإفتاء بموقف الأزهر الذي اعتاد اتهام كل مجتهد بازدراء الإسلام، لأنها – أي الإفتاء- صارت جهة مستقلة غير خاضعة لهيمنة هيئة كبار العلماء التابعة للأزهر منذ قرار السيسي في أغسطس الماضي بنقل تبعيتها إلى مؤسسة الرئاسة ليكون تعيين المفتي بقرار من الرئيس دون ترشيح اسم بعينه من شيخ الأزهر، كما كان معمولا به من قبل.

ويترقب الأزهر موقف دار الإفتاء من القضية، لأنه قد يكون حاسما في علاقة الطرفين، لأن هناك صراعات خفية بينهما، حيث يحاول كل منهما السيطرة على المشهد الديني وزيادة مساحة النفوذ السياسي، لكن تظل معضلة الأزهر في خلافاته المتكررة مع السيسي منذ أن طالب بتجديد الخطاب الديني وتنقيح التراث.

وينظر الرئيس المصري لدار الإفتاء على أنها أكثر انفتاحا ووسطية من هيئة كبار العلماء وتتعاطى مع القضايا المجتمعية بشكل دبلوماسي حتى لا تُتّهم بأنها جزء من السلطة فتفقد مصداقيتها، وهي بالنسبة إلى النظام المصري أهون من جمود آراء علماء الأزهر، وظهر ذلك في مواقف وقضايا كثيرة لم تثر جدلا واسعا.

وتسبب جمود الأزهر في إقحام مفكرين وكتاب خلف أسوار السجون، لأنه مع كل قضية تستطلع فيها المحكمة رأي مجمّع البحوث الإسلامية أو هيئة كبار العلماء، يسارع رجاله بإثبات تهمة ازدراء الأديان ليصدر القضاء حكما بحبس المتهم.

ورفض الأزهر أكثر من طلب للباحث أحمد عبده ماهر للدخول في مناظرة فكرية معه حول تفسيرات القرآن الموجودة في المناهج الأزهرية والأحاديث النبوية المشكوك في صحتها وبعض الروايات التاريخية المطعون فيها ونقلها الأئمة الأربعة، والكثير منها يتعارض مع القرآن والسنة، واكتفى الأزهر بتوظيف بعض شيوخه للرد بالترهيب غالبا، وهي صيغة تتعارض مع المساحة المطلوبة للاجتهاد.

نجاد البرعي: تجديد الخطاب الديني يبدأ بحوار بين المؤيدين والمعارضين

ويرى حقوقيون أن استناد القضاء لرأي المتخصصين من دار الإفتاء حول قضية خاصة بالاجتهاد خطوة إيجابية طالما أن الأزهر اعتاد التعامل مع هذه النوعية من القضايا بحساسية مبالغ فيها، وينصّب نفسه وصيا على الدين ويضع جملة من الخطوط الحمراء حول التراث ليحظر الاقتراب منها، سلبا أو إيجابا.

وقال المحامي والحقوقي البارز نجاد البرعي لـ”العرب” إن ميزة إحالة دعوى قضائية تخص الشأن الديني إلى دار الإفتاء أنها تفتح باب النقاش حول الإشكاليات المرتبطة بالتراث، إذ يحق لعبده ماهر أن يستعين بلجنة مضادة للجنة الإفتاء لتناقش كل منهما الأخرى بشكل أشبه بمناظرة دينية، لأن المجتمع في حاجة إليها كبداية لاقتحام ملف تجديد الخطاب الديني تحت مظلة قضائية.

وأضاف أن أزمة المؤسسة الدينية تكمن في رفضها تقبل النقاش الخاص بالتراث ولا تدرك أن ما يعظم أيّ دين هو تبادل وجهات النظر حول المسائل الجدلية بشكل متحضر، وتكون المواجهة فكرية لا عبر الترهيب والحبس والمحاكمات، لأن تجديد الخطاب الديني يحتاج إلى مناظرة بين المؤيدين والمعارضين للتراث.

وبغض النظر عن مصير القضية محل النزاع، فالشواهد توحي بأن هناك أزمة مرتقبة، لأن دار الإفتاء ستكون مطالبة بالاختيار بين ما يؤيده الرئيس السيسي وما تقتنع به مؤسسة الأزهر، أو بين مسايرة التجديد والانفتاح وبين التمسك بالمواقف المتحجرة حول حرية الرأي والتعبير والتشبث بمحاكمة كل فكر تنويري، وهو ما تترقبه دوائر سياسية مصرية الأيام المقبلة، فقد تكون قضية عبده ماهر حاسمة لتحديد شكل العلاقة بين السلطة الحاكمة والأزهر.

6