تراكم عوامل الأزمة: تونس بين المشاكل الحالية والمسارات المستقبلية

تونس أمام معضلة المضي في إصلاحات دون الدخول في أزمة اجتماعية.
الجمعة 2024/03/01
الإصلاحات مؤلمة

يواجه صنّاع القرار في تونس معضلة كبرى؛ فالإصلاحات الاقتصادية القاسية قد تتسبب في نشوب أزمةً اجتماعية وسياسية، لكن من دون هذه الإجراءات قد تدخل البلاد في دوّامة الانهيار الاقتصادي.

تونس - يسود توافقٌ في أوساط معظم الخبراء على أن المخاطر الاقتصادية في تونس تزداد يومًا بعد يوم، وينبغي اتّخاذ الإجراءات اللازمة للتصدّي لها. لكن الآراء تتباين بشأن نطاق وتوقيت ونوع البرنامج المطلوب تنفيذه لمعالجة مشاكل البلاد.

ويقول حمزة المؤدّب، وهو باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط، في تقرير نشره المركز إن تونس تشهد معضلةً حقيقية نتيجة المشاكل المالية والاقتصادية المتراكمة التي تتخبّط فيها. فالاعتماد على التدابير التقشفية حصرًا يهدّد بإشعال فتيل أزمة اجتماعية، نظرًا إلى أن الأوضاع الاقتصادية والمالية صعبة للغاية. لكنّ عجز تونس عن إبرام اتفاقٍ مقبول مع صندوق النقد الدولي لمعالجة مكامن الضعف الهيكلية واستعادة ثقة المستثمرين، يضع البلاد على شفا أزمة مالية.

وبحلول عام 2023 تعثّرت عملية النمو في تونس، ما فاقم الأداء الاقتصادي المتردّي الذي تسجّله البلاد منذ فترة طويلة. وهكذا، غرقت تونس في ركودٍ اقتصادي مُقلِق تزامن مع ارتفاع معدّلات التضخم. وعلى الرغم من قدرة السكان على الصمود والتكيّف، يبقى أن الضغوط الاجتماعية آخذةٌ في الازدياد.

وقوّضت الاختلالات الكبيرة في المالية العامة قدرة الحكومة على التصرّف. وقد يتدهور الوضع المالي في تونس بشكل إضافي نتيجة تراكم المتأخرات وتنامي عبء الديون المضمونة من الحكومة.

وتراجع اعتماد تونس على التمويل الخارجي بشكلٍ مطّرد نظرًا إلى غياب أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وأدّى ارتفاع وتيرة الاقتراض المحلّي إلى مزاحمة القطاع الخاص، ما زاد من حدة الركود الاقتصادي.

وفي ظل الركود الذي يخيّم على تونس تكمن مدعاة القلق الكبرى في التهديدات المُحدِقة بالدعائم الأساسية للاقتصاد التونسي، والتي قد تقوّض آفاق النمو في البلاد على المدى الطويل.

وتواجه تونس معضلة صعبة، ولا يمكنها تجاهل الاختلالات المالية الداخلية والخارجية التي تعاني منها. فالإبقاء على الوضع القائم سيؤدّي، عاجلًا أم آجلًا، إلى وقوع أزمة مالية، إلّا أن تطبيق تعديلات جذرية ومفاجئة قد يشعل فتيل أزمة اجتماعية سياسية.

ولذلك يكمن الخيار الأفضل في تعزيز النمو الاقتصادي من أجل تجاوز التحديات المُحدقة. لكن هذا المسار يتطلّب شكلًا جديدًا من أشكال القيادة التي تعمل على تشكيل ائتلافٍ من أجل التغيير، وبناء قدرٍ كافٍ من الثقة في أوساط المجتمع، من أجل خوض غمار المشروع الإصلاحي الطموح.

تعثُّر عملية النمو

آراء الخبراء تتباين بشأن نطاق وتوقيت ونوع البرنامج المطلوب تنفيذه لمعالجة مشاكل البلاد الآخذة في التزايد

في عام 2023 توقّع صنّاع السياسات المالية والشركاء الدوليون أن يحتل الاقتصاد التونسي أولوية متقدّمة على جدول الأعمال الوطني، إذ اعتقدوا أن اتفاقًا مرتقبًا مع صندوق النقد الدولي سيؤدي إلى تحفيز التعافي الاقتصادي بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في ديسمبر 2022. لكن ذلك لم يحدث، بل تعثّر النمو الاقتصادي.

وواقع الحال أن الاقتصاد التونسي يسجّل أداءً أدنى بكثير من إمكانيات البلاد. فقد كانت تونس متفوّقة في نموها الاقتصادي خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، حين كان نموذجها الاقتصادي يستند إلى سياسة استبدال الواردات، وأيضًا خلال التسعينات بعد أن عدّلت هذا النموذج ليصبح موجّهًا نحو التصدير. لكن الصعوبات بدأت تطلّ برأسها خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين عجزت البلاد عن رفع مستوى إنتاجيتها بشكل كافٍ، وبالتالي لم تتمكن من مواكبة مسار توسّع الأسواق العالمية.

وزادت هذه الأوضاع من وطأة التظلّمات الشعبية وأشعلت جذوة الانتفاضة في عام 2011. لكن أوجه الضعف الاقتصادية ازدادت على مدى العقد السابق، بسبب تأخُّر الإصلاحات ووقوع أزمات خارجية واختلال النظام السياسي، ما أدّى إلى تراجع أداء النمو الاقتصادي إلى 0.9 في المئة فقط.

والواقع أن الأداء الضعيف الذي سجّله الاقتصاد التونسي في العام 2023 ليس سوى امتدادٍ لمسارٍ يسلكه منذ عقدٍ من الزمن ويتّصف بضعف العوامل التي تسهم في بناء الحركة الاقتصادية. فقد اقتصر النمو المُحقَّق على كلٍّ من القطاع العام والاقتصاد غير الرسمي، فيما شهدت الأقسام الديناميكية من الاقتصاد انكماشًا.

وساهمت الأزمات المتتالية وانعدام الاستقرار السياسي في تقويض القطاع السياحي، بينما تضرّرت قطاعات اقتصادية عدّة بسبب توقّف التوسّع التصنيعي وانهيار إنتاج الفوسفات.

آفاقٌ مستقبلية

الفرصة سانحة أمام تونس اليوم لإحراز تقدّم مهمّ من أجل تحسين آفاق النمو في البلاد من خلال الاستفادة من المنافع التي يمكن أن يحقّقها الشروع في عملية إصلاحٍ اقتصادي

ستواجه تونس صعوبة أكبر في خفض إجمالي ديونها خلال الأشهر المقبلة، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى الارتفاع في تكاليف خدمة دينها الخارجي. ففي عام 2023 بلغت تكاليف خدمة الدين حوالي مليارَي دولار، ويُتوقَّع أن تصل إلى نحو 4 مليارات دولار في عام 2024، ما سيضاعف حجم التحديات المُلقاة على كاهل تونس.

وتشمل هذه التكاليف تسديد استحقاقات أصل الدين بالعملات الأجنبية (أي اليوروبوند)، وهي سندات مُتداولة في الأسواق المالية بقيمة 850 مليون يورو (930 مليون دولار). وفيما تحاول تونس تبديد هذه التحديات، يتعيّن على صنّاع القرار التفكير في ثلاثة سيناريوهات مُحتملة.

يتمثّل السيناريو الأول في إحجام تونس عن إجراء الإصلاحات وعن تطبيق برنامجٍ بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وستبقى بموجب هذا السيناريو العجوزات الداخلية والخارجية في تونس كبيرة نسبيًا، وستضطر البلاد إلى تغطية عجز الميزانية عن طريق القروض المحلية، وتأجيل سداد المتأخرات المستحقة، وطباعة الأوراق النقدية.

وفي ظل تضاؤل فرص الحصول على تمويل خارجي، ستضطر السلطات إلى إجراء تعديلات اقتصادية مؤلمة. وحتى مع خفض فاتورة الاستيراد، سيبقى العجز في ميزان المدفوعات كبيرًا -بين 3 و4 مليارات دولار- وسيُستخدَم الاحتياطي العام بشكلٍ أساسي من أجل تمويله.

وقد بدأت السوق المحلية تشكو من نقص بعض السلع والمواد الأساسية، بالتزامن مع التراجع الشديد في الطلب المحلي. لكن ما لم يتم الاتفاق على برنامجٍ مع صندوق النقد من شأنه تلبية الحاجات المالية لكلٍّ من الحكومة والشركات المملوكة للدولة، ستزداد حدّة المعضلات التي تتخبّط فيها البلاد.

آراء الخبراء تتباين بشأن نطاق وتوقيت ونوع البرنامج المطلوب تنفيذه لمعالجة مشاكل البلاد الآخذة في التزايد

ويستند السيناريو الثاني إلى الاتفاق على برنامجٍ مع صندوق النقد الدولي، وإجراء بعض الإصلاحات. قد تمارس التشنّجات الداخلية في أوساط النخب السياسية والأمنية التونسية ضغوطًا متنامية على الرئيس قيس سعيد لدفعه إلى القبول ببرنامج صندوق النقد، سعيًا إلى لجم السخط الشعبي المتصاعد.

وسيترافق هذا البرنامج على الأرجح مع تمويل إضافي توفّره دولٌ أخرى، ما من شأنه تخفيف الضغوط عن الحسابات الخارجية لتونس.

ولكي يحظى البرنامج بقبول السلطات، يجب أن يتجنّب فرض تدابير تقشّفية قاسية، ويمكن إطلاقه في الواقع قبل موعد انتخابات عام 2024. وفيما من المستبعَد أن ينجح هذا البرنامج في قلب الاقتصاد التونسي رأسًا على عقب، يُحتمَل أن يستمر بخطى متعثّرة، على غرار برامج مشابهة طُبِّقت في مصر وباكستان، وأن يجذب إلى البلاد تدفّقات مالية خارجية متواضعة.

وستكون الإصلاحات المحدودة مصمَّمة بشكل أساسي لضمان الملاءة المالية للبلاد وقدرتها على الحصول على التمويل الثنائي ومتعدّد الأطراف. إذًا، من غير المرجَّح أن تُحدِث الإصلاحات تحوّلًا جوهريًا في الاقتصاد التونسي.

أما السيناريو الثالث فينطوي على إطلاق تونس عملية إصلاحية يُعتدّ بها وتنجح في دفع عجلة النمو الاقتصادي. وهذا من شأنه أن يعالج مشكلة الدين التي تثقل كاهل البلاد. فتطبيق برنامجٍ إصلاحي وطني قد يخفّف عبء التعديلات الاقتصادية، مثلًا من خلال جذب تمويل جديد، ربما من المصارف الإنمائية متعدّدة الأطراف.

مسارات التعافي

Thumbnail

تتأرجح تونس على حافة الانهيار منذ سنوات عدّة، بيد أن اقتصادها أبدى قدرًا كبيرًا من المرونة. وقد جادل الكثير من المراقبين بأن أسباب المصاعب التي تواجهها البلاد سياسية في الغالب، وأن التقدّم يتطلّب في المقام الأول إجراء إصلاحات سياسية.

وأدت انتفاضة عام 2011 في نهاية المطاف إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد. فنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، على الرغم من مساوئه الكثيرة، استطاع الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلّي والإمساك بالنظام العام وفرض سلطته. لكن بعد عام 2011 أتى التقدّم السياسي المُحرَز على حساب الاقتصاد، إذ أعطى النظام السياسي الفوضوي والتنافسي الذي نشأ الأولويةَ لتحقيق التحوّل الديمقراطي وكان عليه تلبية مطالب زيادة الأجور، وزيادة التوظيف في القطاع العمومي، وتحسين الظروف المعيشية.

ونتيجةً لذلك فشلت الحكومات الثلاث عشرة التي تشكّلت بعد الانتفاضة في تحقيق توازن المالية العامة، ما أسفر عن عجوزات مالية كبيرة طوال هذه الفترة، وأدى إلى ارتفاع الدين العام. وأسهم السخط الاجتماعي في تنامي الشعبوية، وعجز النظام القائم عن تطبيق الإصلاحات غير الشعبية التي ستسمح لتونس بتحقيق إمكانياتها الاقتصادية بالكامل.

ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن انتفاضة عام 2011 وُلدت من رحم التظلّمات الاقتصادية، إذ لم ينجح نظام بن علي في استحداث الآلاف من فرص العمل الجيّدة التي يحتاج إليها الاقتصاد سنويًا لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المواطنين المتعلّمين. ونظرًا إلى أن النظام كان مدفوعًا بالسعي إلى تعزيز صموده واستمراره، فهو لم يعمَد إلى إصلاح الشركات المملوكة للدولة التي تكبّدت خسائر مالية فادحة أو نظام الدعم الذي شكّل عبئًا متزايدًا. أما النظام التنافسي الذي أعقبه فقد ورِث هذه المشاكل الهيكلية، لكنه اضطرّ إلى التركيز على التحديات قصيرة المدى، وبالتالي عجز عن تحديث الاقتصاد من خلال تنفيذ الإصلاحات اللازمة. ويرزح نظام قيس سعيّد الشعبوي راهنًا بدوره تحت وطأة ضغوطٍ مماثلة قصيرة المدى.

وخلال السنوات المقبلة ستُفرز التطوّرات الاقتصادية تداعيات سياسية مهمة، وإن كانت لا تزال غير واضحة. لذلك تكتسي الانتخابات الرئاسية المُرتقب إجراؤها في أواخر عام 2024 أهمية كبرى.

ويرى المؤدب أن الفرصة سانحة أمام تونس اليوم لإحراز تقدّم مهمّ من أجل تحسين آفاق النمو في البلاد من خلال الاستفادة من المنافع التي يمكن أن يحقّقها الشروع في عملية إصلاحٍ اقتصادي.

وفي غضون ذلك يحاول الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي إعادة توطين عمليات إنتاج سلاسل القيمة العالمية ذات الأهمية الإستراتيجية في مناطق مجاورة، وتتمتّع تونس بموقع يخوّل لها الاستفادة من هذه الظاهرة.

ونظرًا إلى أن التركيز على تطبيق الإصلاحات الاقتصادية قد يسهم بشكلٍ أكبر في تعزيز الازدهار الاقتصادي، أصبح الرهان على الإصلاحات الداعمة للنمو مُغريًا أكثر من ذي قبل.

7