تراجع ظاهرة العائلات الفنية.. أزمة تخفي أزمات

تكرّست ظاهرة العائلات الفنية طيلة عقود من الزمن في الوسط الفني العربي وخاصة في مجالي السينما والغناء، ويعود ذلك إلى طبيعة التنشئة التي يتلقاها أبناء الفنانين في مناخ فني حيوي ديناميكي يزخر بالحضور الإعلامي الكثيف فينشأون تحت بؤرة الأضواء. ولكنّ هذه الظاهرة تراجعت اليوم، خاصة مع رحيل العديد من المبدعين العرب الذين ساهموا في تكريس ما يمكن وسمه بالتوريث الفني بما له وما عليه.
فلان أو فلانة من عائلة فنية معروفة.. عبارة لم نعد نقرأها كثيرا على صفحات المجلات المتخصصة إلا في أخبار نعي وتوديع أبناء جيل العقود الماضية، فهل انتهى عصر العائلات الفنية حقا أم أن الأمر يتعلق بمجرد عدم الاكتراث لعدوى الفن داخل الأسرة الواحدة؟
يخطر هذا السؤال إلى الذهن هذه الأيام، مع ورود أخبار وفاة فنانين من جيلي السبعينات والثمانينات، كان آخرهم أحمد الحجار شقيق الفنان علي الحجار وابن المطرب والملحن إبراهيم الحجار، عن عمر ناهز 65 عاما. وهو نفس السن الذي رحلت فيه مها أبوعوف، ابنة الفنان أحمد شفيق أبوعوف، الذي اتجه إلى الفن والموسيقى بعد أن أنهى عمله كضابط شرطة، وهي الأخت الأصغر للنجم الراحل عزت أبوعوف، وكونا معا بصحبة شقيقتهما فرقة غنائية أطلقوا عليها اسم “فور إم”.
وكان قد سبق هذين الاثنين إلى الوفاة، الكوميدي سمير غانم وزوجته الممثلة دلال عبدالعزيز، متأثرين بفايروس كورونا، تاركين ابنتيهما دنيا وإيمي غانم تعملان في الوسط الفني أيضا، وكذلك رحيل الممثل محمود ياسين الذي أنجب من زوجته الممثلة شهيرة رانيا محمود ياسين. واستمرت عائلات مصرية في التصاهر مع عائلات فنية أخرى حتى منها من وصلت إلى الجيل الثالث.. وبعد ذلك بدأت ظاهرة توريث الفن بالانقطاع التدريجي.
عائلات فنية
ترى، لماذا لم نعد نسمع كثيرا في أوساط الجيل الجديد عن مثل هذه العائلات الفنية كما هو الحال لدى الرعيل الأول من أمثال فريد شوقي الذي أنجب من زوجتيه الأولى هدى سلطان والثانية سهير ترك، بنتين تمتهنان الفن، وكذلك عائلة “ذو الفقار” وغيرها؟
هذا على صعيد الوسط الفني المصري والذي عادة ما يقع التركيز عليه بوصفه النموذج الأكثر استدعاء في المشهد الفني العربي، لكن لا أحد يمكن له تجاوز المدرسة الرحابنية الرائدة في لبنان أو حتى ممن هم أقل منهم شهرة في باقي البلدان العربية كالعراق ودول الخليج والمغرب العربيين.
هناك أمر لا يمكن تغافله لدى الرعيل الأول ممن مارسوا الفن وهو الجانب الاجتماعي المتمثل في عدم تقبل امتهان الفن عند غالبية الطبقات الاجتماعية فما كان من هؤلاء الفنانين أن رأوا في علاقات الزمالة فرصة لتكوين أسرة بحكم القرب والتعايش اللذين يسمحان بالتفهم والقبول.
عوامل كثيرة ساهمت في تقلص ما يعرف بالعائلات الفنية منها ما يتعلق بالذائقة ومتغيرات العصر وتفكك العائلة
كانت تلك العائلات الفنية بمثابة الكنتونات أو الجزر المنفصلة، والتي تمثل بدورها “أرخبيلا فنيا” يتجاور ويتحاور ويتصاهر أهله بحكم المهنة وما تقتضيه من قرابة لا يمكن لها أن توجد لدى بقية فئات المجتمع رغم حصول حالات كثيرة من حالات التمرد على التقاليد الأسرية، كما هو الحال عند أرستقراطيين أو ضباط وأبناء ذوات كيوسف وهبي وأحمد مظهر وكمال الشناوي وغيرهم.
يضاف إلى هذا احتكار الكثير من الخواجات والأقليات الدينية والإثنية للصناعات الفنية من قبيل اليهود والأرمن واليونانيين وبعض الوافدين من الشام وبلاد المغرب، وما يتيحه ذلك من “حريات منغلقة” على محيطها الشعبي.
ثم لا ينبغي أن ننسى بأن الفن مهنة كغيرها من المهن أي لديها أسرارها وحرفيوها الذين يحافظون عليها بالتواتر جيلا بعد جيل، ويجب أن يحافظ عليها صلب العائلة الواحدة ويحموها من الدخلاء.
كل هذا بالإضافة إلى البيئة التي ينشأ عليها الفنان منذ الصغر، وسعيه الفطري لتعلم مهنة أبيه أو أمه التي فتح عينيه عليها.
الأمر لا يقتصر على العالم العربي بل يمس العالم الهوليوودي نفسه، ولكن مع فوارق جوهرية، وضمن حالات استثنائية كمايكل دوغلاس وعائلته فهو ابن لأحد أشهر الممثلين في تاريخ هوليوود كيرك دوغلاس، وأمه الممثلة ديانا دوغلاس، وزوجته هي النجمة الشهيرة في هوليوود الفائزة بجائزة الأوسكار عام 2003، كاثرين زيتا جونز.
إلى هنا يبدو الأمر طبيعيا في فهم وقراءة العائلات الفنية التي قد تبدو طبيعية، لكن اللافت أن هذه الظاهرة التي كانت شبه اعتيادية في العقود الماضية، قد بدأت تختفي، فهل خفت إعجاب الأبناء بما يفعله الآباء؟
تراجع الظاهرة
عوامل كثيرة ساهمت في تقلص ما يعرف بالعائلات الفنية، منها ما يتعلق بالذائقة ومتغيرات العصر لدى الجيل الجديد الذي يعتبر ما سار عليه الآباء “دقة قديمة” حتى وإن بقي متعلقا بالفن، ومنها ما يتعلق بإيقاع الحياة الحديثة وثقافة السوق بكل مستجداته.
أما العنصر الخفي في إحجام الأبناء عن مهن الآباء فهو تراجع سطوة العائلة وانفلات الجيل الجديد من رغبات الأهل، تماما مثل الحالة العكسية المتمثلة في اتجاه “أولاد الأطباء والمهندسين” نحو الفن، على عكس رغبات آبائهم.
وعن التوريث المهني وبخاصة في الفن، تقول الدكتورة عزة صيام أستاذ علم اجتماع بكلية الآداب جامعة بنها، إن التوريث «تحكمه عوامل عدة، أولا الاستعداد الشخصي للعمل بنفس مهنة الأب الناجح، ثانيا التوريث المهني، ثالثا الجينات الفنية المتوارثة، مثل عائلة السنباطي في التلحين، وعائلة نعيمة عاكف ونيللي في الاستعراض”.
ولا بد من الاعتراف، في نهاية الأمر، أنه وفي الوسط الفني، يصبح التوريث أمرا غريبا، لأن الفن موهبة في الأساس، ولا أحد يتعلم الموهبة مهما كان متقنا في الصناعة، وإن كانت للموضوع أبعاد تاريخية وفنية واجتماعية.
وتجدر الإشارة إلى أن العائلة الفنية بالمفهوم التقليدي قد تركت مكانها نحو ظاهرة جديدة هي العائلة الفنية التي يجتمع فيها أكثر من عنصر على سبيل التنوع في التخصص والتكامل، ويجمعها بيت واحد هو الفن، حتى وإن امتهن أحدها التسويق والإنتاج الفني كاختصاص اقتصادي بحت.
أسئلة كبرى وعميقة تطرحها ظاهرة تراجع ظاهرة العائلات الفنية، وتتشابك إلى حد وجوب عرضها على علماء الاجتماع، ذلك أنها تلامس حتى حالات التفكك الأسري، وتصل في العالم العربي إلى ظاهرة الردة الدينية والفكرية، وابتعاد الأبناء عن مساحات الحرية والانفتاح التي كانت سائدة لدى الآباء في ما مضى من “الزمن الجميل”.