تراجع الانتهاكات ضد الإعلام السوري.. شكرا للرقابة الذاتية

يلجأ الصحافيون السوريون إلى الرقابة الذاتية بشكل متزايد بعد مسيرة طويلة من التعامل مع شتى صنوف القمع من قبل الأطراف المتعددة في البلاد، ونتيجة لذلك تقلص عدد الانتهاكات لعدم وجود صحافة خارج إطار المسموح به.
دمشق- وثق المركز السوري للحريات الصحافية وقوع انتهاك واحد ضد الإعلام في سوريا خلال شهر أغسطس 2021، بانخفاض كبير عن شهر يوليو الماضي، وذلك على الرغم من أن حالة التضييق على الإعلام مستمرة بنفس الوتيرة في مختلف المناطق السورية، ما يشير إلى التزام العاملين في الإعلام بالرقابة الذاتية.
وذكر المركز التابع لرابطة الصحافيين السوريين، في تقريره الدوري لرصد الانتهاكات ضد الإعلام في سوريا، أنه على الرغم من أن الشهر الماضي يعتبر أقل الأشهر من ناحية أعداد الانتهاكات الموثقة خلال العام الحالي مازال الواقع لم يتغير من حيث القيود والتضييق على الصحافيين.
وتمثّل الانتهاك الوحيد خلال الشهر الماضي في منع “هيئة تحرير الشام” لقناة “أورينت” من العمل بشكل نهائي في مناطق سيطرتها بشمال غربي سوريا.
وقد تعرض صحافيون لأشكال متعددة من التضييق، خاصة المتابعات القانونية، ويعلمون جيدا تبعات الخوض في الممنوعات والمحظورات في سوريا كالتوقيف والاختفاء القسري والتعذيب والسجن لسنوات عديدة، ما ولّد لديهم خوفا متزايدا، مع ضعف المؤسسات الإعلامية وغياب استقلاليتها الذي يمثل “غطاء شرعيا” نسبيا للصحافيين أثناء أداء عملهم الصحافي. فكان الحل الآمن نسبيا هو الرقابة الذاتية التي تصاعدت وتيرتها على وقع التضييق الأمني.
ويعتبر المشهد الإعلامي في سوريا واضحًا ويمكن حصره وتحديد معالمه؛ إذ توجد في سوريا -بالإضافة إلى وكالة الأنباء الرسمية (سانا) والصحف اليومية الرسمية الثلاث- البعض من وسائل الإعلام الخاصة دون أن تكون لديها توجّهات سياسية، أو وسائل تابعة لشخصيات مقربة من الحكومة تدور في سياق الرواية الرسمية. وينطبق الشيء نفسه على القنوات الإذاعية والتلفزيونية التي تقدم الترفيه والتسلية وليس النقد.
ولا تؤثِّر السلطات السورية على وسائل الإعلام فحسب بل تراقب شبكة الإنترنت وتحاول فرض سيطرتها عليها، ويخضع الصحافيون الذين يكتبون على شبكة الإنترنت للرقابة وينتهي المطاف بالمدوِّنين في السجن.
ويتم توجيه تهم جاهزة لهؤلاء الصحافيين والمدونين -مثل “نشر معلومات كاذبة” و”إضعاف الشعور القومي والقذف والتشهير بالرئيس” أو “إثارة النعرات العرقية والطائفية”- وتعطيل حقّ التعبير عن الرأي المنصوص عليه في الدستور السوري. ونجحت هذه الممارسات في تكوين نوع من الرقابة الذاتية لدى المدوِّنين والصحافيين السوريين.
ولا تخلو الرقابة الذاتية في الإعلام من مخاطر على حرية الرأي والتعبير والحريات الإعلامية، ولها آثار سلبية على العمل الإعلامي وتحد من القدرة على نقل المعلومة وأصوات الناس، وهو ما ينعكس على تطور الإعلام والصحافة.
ويقر البعض بأن الرقابة الذاتية تعتبر من أسوأ أشكال الرقابة، ولا تنعكس على أداء الصحافيين فقط بل تؤدي أيضا إلى غياب استقلالية المؤسسات الإعلامية التي يبرز فيها مصطلح “حارس البوابة” الذي يلعب دورًا في وضع أنظمة وتعليمات قد تكون شفوية أكثر منها معلنة أمام الصحافيين؛ إذ يقابَل الصحافي برفض نشر مادة صحافية أو حتى البدء بمتابعة قضية ما، لا لشيء إلا لرفض رئيس تحرير وسيلة إعلامية ما.
وعادة ما يتم إيقاف الكتابة بشأن أيّ موضوع يجلب صداعا لوسائل الإعلام مثل المواضيع السياسية والدينية وتناول الأوضاع المعيشية المتدهورة، فيزداد الوضع تضييقا، وأحيانا يسيء التحرير إلى المادة بعد عملية الحذف.
وساهمت جملة من التضييقات في إرساء ثقافة الرقابة الذاتية لدى العاملين في قطاع الصحافة والإعلام حتى في حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد تعرض الكثير من الإعلاميين -ومنهم عاملون في وسائل إعلام رسمية- للاعتقال والتوقيف بسبب انتقادهم الأوضاع على الشبكات الاجتماعية، وبعد خروجهم من السجن التزموا الصمت الكامل.
وذكرت منظمة “مراسلون بلا حدود” في تقريرها السنوي لعام 2021 أن بعض المناطق رأت فيها النور عبر منابر إعلامية حرة ومستقلة، على أيدي صحافيين مواطنين عقب الانتفاضة، لكن أغلب تلك المنابر عجزت عن الصمود.
وأشارت إلى أن “الصحافة الحرة منعدمة في سوريا، حيث تكتفي وسائل الإعلام بنقل الأنباء الصادرة عن وكالة الأنباء الرسمية، مما يعني أن لا صوت يعلو فوق صوت الخطاب الرسمي”.
ووفق المنظمة فإن “كل ما يشبه النقد أو ينطوي على معلومات حساسة، تترتب عليه أعمال انتقامية من قبل المخابرات، التي تتصرف على هواها دون حسيب ولا رقيب”، حيث احتجزت العشرات من الصحافيين، فضلاً عن وفاة مئات الصحافيين بسبب التعذيب، ومعظمهم يجهل أقاربهم مصيرهم.
ومن جهة أخرى اختطف صحافيون آخرون من قبل مختلف الجماعات المسلحة، وعلى رأسها “جيش الإسلام” و”هيئة تحرير الشام”.
وفي مارس الماضي وثقت “مراسلون بلا حدود”، في تقرير لها بمناسبة الذكرى العاشرة للثورة السورية، مقتل ما لا يقل عن 700 من الصحافيين المحترفين وغير المحترفين في سوريا، سواء بسبب وجودهم في بؤر تبادل إطلاق النار أو نتيجة اغتيالهم على أيدي طرف من أطراف النزاع في سياق تغطيتهم للأحداث الجارية على الميدان.
أما أرقام الشبكة السورية لحقوق الإنسان فتشير إلى حصيلة أكبر بكثير؛ ففي تقرير صادر عام 2020 قدرت هذه المنظمة المحلية عدد القتلى الصحافيين بما لا يقل عن 700، دون أن يتسنى تأكيد هذه الأعداد، في ظل صعوبة الوصول إلى المعلومات والتعتيم التام الذي تفرضه السلطات والجماعات المتطرفة على الانتهاكات والفظائع المرتكبة في هذا السياق.
وقالت “مراسلون بلا حدود” “قبل وقت طويل من بدء الانتفاضة والحرب الأهلية في مارس 2011 ، أبقت السلطات قبضتها المحكمة على الأخبار الواردة في وسائل الإعلام الحكومية وحظرت بشكل روتيني الصحافيين الأجانب من دخول البلاد، بينما كانت الشرطة الإلكترونية تلاحق أي شخص كانت أنشطته على الإنترنت يُعتبر أنه يشكل تهديدًا لمصالح النظام”.
صحافيون تعرضوا لأشكال متعددة من التضييق، خاصة المتابعات القانونية، ويعلمون جيدا تبعات الخوض في الممنوعات والمحظورات في سوريا
وذكرت أن “المئات من الصحافيين تعرضوا للاعتداء الجسدي والاعتقال والاحتجاز التعسفي والتعذيب والقتل، في حملات القمع الحكومية أو القصف أو نتيجة جرائم العنف التي ارتكبتها الجماعات المسلحة المختلفة العاملة في سوريا”.
وبمناسبة “اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري”، الذي يصادف الثلاثين من أغسطس كل عام، أكد المركز السوري للحريات الصحافية أن هناك 37 إعلامياً على الأقل لا يزالون رهن الاحتجاز أو مختفين قسراً في سوريا، داعياً دول العالم وكافة المنظمات الحقوقية والمعنية بالشأن السوري إلى ممارسة الضغط على القوى الفاعلة على الأرض السورية للإفراج عن هؤلاء الإعلاميين.
كما طالب المركز قوات حزب الاتحاد الديمقراطي بالإفراج الفوري عن عضو رابطة الصحافيين السوريين برزان حسين لياني، المحتجز في محافظة الحسكة منذ يوليو الماضي دون معرفة مصيره وأسباب احتجازه.