تذكر الأم العربية الأكثر شقاء.. العيد يعود على السوريات بالألم

تتفق الشعوب العربية والغربية على الاحتفال بعيد الأم وتوليه أهمية كبيرة باعتباره فرصة ليكرم الأبناء أمهاتهم على عطائهن اللامحدود وتضحياتهن، ويختلف تاريخ عيد الأمّ من دولة أخرى، وخصصت أغلب الدول العربية يوم 21 مارس للاحتفال بهذا اليوم.
الاثنين 2016/03/21
بأي حال عدت يا عيد

القاهرة - في الوقت الذي يحتفل فيه كثيرون بعيد الأم، تعيش آلاف الأمهات السوريات في دول مختلفة محاصرات بذكريات مؤلمة، ومشاهد جثامين الأبناء والأزواج لا تفارق مخيلاتهن.

“سرقوا منا الفرحة، وبتنا نعيش في حزن دائم، وغطى لون الدم على ورود العيد”، كلمات قليلة قالتها أمّ مهند نصرات لـ”العرب”، عبرت بها عن واقع تعيشه أغلب الأمهات السوريات والعربيات في عيدهن.

وقالت أمّ مهند “لا شيء يضيفه العيد سوى ألم فوق ألم، فلا خاسر أكبر من الأمّ السورية، ومهما كان الطرف الذي تقف معه، فهي من دفعت الثمن أكثر، بين أسيرة أو شهيدة أو نازحة”.

وبالرغم من أن سوريا كانت الدولة الوحيدة التي أصدرت مرسوما عام 1988، باعتبار 21 مارس من كل عام عطلة رسمية إيمانا بمكانة الأم، إلا أن السوريات لم يحتفظن بتلك المكانة للعام الخامس على التوالي منذ الحرب الدائرة هناك.

ووقفت أحلامهن على باب العيد دون أن يحمل هدايا غير لوعة الفراق، وخوف من جوع أو مرض، فضلا عن متاعب وصعوبات التهجير.

على بعد 38 كم من العاصمة المصرية القاهرة، تجوّلت “العرب” في مدينة السادس من أكتوبر، كونها تضم عددا كبيرا من اللاجئات السوريات، وفيها تزاحمت الحكايات، وتعددت الروايات والأماني لنساء حصدَ الألم ملامحهن، استقرت غصة في نفوس “صاحبات العيد”، فمنهن من استشهد ابنها فلم تستطع في هذا اليوم حتى زيارة قبره، وأخرى يئست من معرفة مصير فلذة كبدها، هل هو حي فتدعو له، أم ميت فتترحم عليه؟

أما من ودعت أولادها منذ سنوات في سوريا، غدت لاجئة لا تستطيع السفر إليهم ولا يستطيعون المجيء إليها. فداء بيطار، لاجئة سورية ناهزت الستين من عمرها، يشع وجهها صبرا وإيمانا، فاض صوتها وجعا وشجنا، عندما عبرت لـ”العرب” عن أملها بالعودة لابنها الوحيد في سوريا لكي يعايدها كما كان يفعل في السابق.

وقفت أحلام الأمهات على باب العيد دون أن يحمل هدايا غير لوعة الفراق، وخوف من جوع أو مرض

عيون بيطار ذرفت الدموع وتخشى لحظات الاحتضار والموت قبل معانقة وحيدها. تذكرت عندما كان يفاجئها في هذا اليوم بقالب المرطبات وعليه اسمها، ويده الأخرى تحمل الورود التي تحبها. وأردفت قائلة “الآن لا هذا ولا ذاك، بعد أن كان يزين عيدي بذراعيه اللتين تحيطان بي”.

كما تعيش أمهات على أمل اللقاء بأبنائهن، هناك أخريات يعشن على النكران، ولا يصدقن فقدان الأبناء، فيتمنين أن يعود شخص “ميت” إلى حياته، بل وينتظرن المعايدة، والكثيرات منهن لم يأخذن مساحة كافية للتأقلم بعد على الوضع المؤلم الجديد.

دالين زوري، لاجئة سورية تعدت السبعين عاما، جدران غرفتها متشقّقة ومليئة بالرطوبة زينتها بصورة كبيرة لزوجها وأبنائها تتوشّح بشريط أسود، كدليل على الفراق، قالت لـ”العرب”، “أتمنى أن يعود الشهداء ويعايدونني كما كانوا يفعلون، ويرجع الزمان إلى الوراء لأكون بصحبة أبنائي الخمسة وزوجي، وهم جميعا استشهدوا في سوريا”.

وأشارت إلى أنها لجأت إلى مصر مع عدد من جيرانها منذ أربعة أعوام، ولم يعد لها أحد ليعيش معها بقية عمرها وتتكئ عليه، وغدت أيامها تتحسر على فقدان عائلتها قبل رحيلها.

وأكدت أم سالم الشاطر من منطقة القلمون غرب سوريا، أن أجمل هدية لها في عيد الأم أن تعود لوطنها، لكي تضع الورود على قبر أولادها الثلاثة الذين علمت منذ شهور أنهم استشهدوا. ولا تظن أن هناك عيدا الآن للأم، في سوريا الشهيدة، وتساءلت بأسى “لمَ الاحتفال ولمَ العيد ويومياً يموت الآلاف، شو بقي عنا لنعيش؟ كل شيء بنيناه تهدم، راح البيت وحتى الوطن تقسّم”.

معاناة الأم السورية لم تقف عند فقدان الابن والزوج، فهناك من فقدت أمها ولم يعد لعيدها طعما أو معنى

وروت لـ”العرب” كيف كان عيد الأم فرحة وبهجة قبل أن يتحول إلى مأتم، فقد كان أولادها وأحفادها التسعة يلتقون في بيت العائلة يقدمون لها الهدايا والورود ويتمنون لها العمر المديد. وأضافت “الأمنيات بقيت ورحلوا هم، وتركوني في مأساة معيشية ومعاناة لا تنتهي، وبت الخاسرة الكبرى في معركة لا يد لي فيها”.

أم سامر ذات الستين عاما، من مدينة جرمانا بريف دمشق، وتعمل بمعرض للعبايات السورية في شارع الهرم بمحافظة الجيزة القريبة من القاهرة، لم تكن أقل تشاؤما من أم سالم، وقالت لـ”العرب” إنه ليس هناك عيد للأم السورية، حتى وإن احتفل بها العالم كله، فما الفائدة وقلبها ينزف ألما وحزنا وحرمانا؟

وتساءلت بحرقة “كيف يكون عيدا والأم السورية مشرّدة في دول عدة ومئات الآلاف من الأمهات يقضين ساعات طويلة وهن يحتضن صور أبنائهن الشهداء، ويستحضرن ذكريات جميلة معهم”.

قدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، منذ مارس2011 وحتى 21 مارس 2015، حصيلة الأمهات ضحايا الحرب في سوريا بما لا يقل عن 5280 سيدة، فضلًا عن أكثر من 68 ألف أرملة، وقتل في سوريا ما لا يقل عن 18572 طفلا.

أمهات سوريات يعشن في مدن مصرية عدة استشهد أبناؤهن أو جُرحوا أو اعتقلوا، لكن تتجسد التراجيديا كاملة في سهى أبوهدير من إدلب بشمال سوريا، فقد استشهد ابنها وزوجها أمام عينيها، وأصبحت تلك الصورة لا تفارقها، قالت لـ”العرب” بصوت يقطر ألما “كان ابني يشتري بسكويت وأنا ما كامشته (أمسكت به) من يده، فراح مني في لحظتها”.

لم تقف معاناة الأم السورية عند فقدان الابن والزوج، فهناك من فقدت أمها ولم يعد لعيدها طعما أو معنى. راما سليم من مدينة الحسكة في شمال شرق سوريا، تحاول ألا تستسلم للحزن من خلال العمل على إسعاد الآخرين، ففي هذه المناسبة تصنع المفروشات القطنية وعليها عبارة “يخليلي ياكي يا ست الحبايب”.

استوضحتها “العرب” إذا كانت أهدت أمها مفروشاتها، فقالت متحسرة “ماتت أمي أمامي، دون أن يستطيع أحدٌ إنقاذها، وما زال يعذّبني مشهد جسدها الغارق في الدماء”. واستكملت “ لم أستطع أن أغطيها، فصنعت تلك المفروشات لكي تكون غطاء لكل أم”.

21