تدمير جسر شمبات.. مؤشر جديد على هستيريا الهزيمة

قصف جسر شمبات يعد ضربة قاصمة وتصرفا هستيريّا يتناقض مع حالة التفاؤل العام التي سادت بعد جلوس طرفي الاقتتال إلى طاولة الحوار في جدة برعاية السعودية والولايات المتحدة.
الثلاثاء 2023/11/14
للجسر دلالة رمزية ونفسية وتاريخية

منذ اندلاع حرب الخرطوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ظل الموقف الدعائي الحربي أو التفاوضي للجيش السوداني ينطلق من اتهام قوات الدعم السريع بأنها تحتل الأعيان المدنية من مستشفيات ومرافق عامة وحتى منازل المواطنين. واشترط الجيش في مفاوضات جدة الأولى إخراج الدعم السريع من هذه الأعيان. لكن مع صباح السبت 11 نوفمبر 2023 فوجئ السودانيون ببيان للجيش، يتهم فيه الدعم السريع بتدمير جسر شمبات الحيوي والرابط بين مدينتي الخرطوم بحري وأم درمان. ومن المعروف أن الخرطوم تُسمى العاصمة المثلثة نسبة إلى الشكل المثلث الذي تبدو عليه جغرافيًّا، حيث يقترن النيلان الأبيض والأزرق في العاصمة السودانية ليكونا النيل عند منطقة المقرن، وتبدو قاعدة هذا المثلث مكونة من مدينتي بحري وأم درمان، بينما رأس المثلث هو مدينة الخرطوم.

جسر شمبات الذي يربط بين مدينتي بحري وأم درمان تم افتتاحه في العهد العسكري لحكومة الرئيس الفريق عبود عام 1966، وشيدته شركة ريتش الإيطالية بأموال المعونة الأميركية التي قدمتها إدارة الرئيس الأميركي نيكسون للدول الأفريقية ومن بينها السودان، حتى أن هنالك شارعا شهيرا يشق مدينة بحري من الشمال إلى الجنوب أطلق عليه اسم “شارع المعونة”.

◙ هذه الحرب تُعتبر بالنسبة إليهم حرب وجود كتنظيم هيمن من قبل على كل مؤسسات الدولة السودانية، فأصبح وجوده مرتبطاً عضويّا ببقائه في السلطة

جسر شمبات الذي تم قصفه بالطيران صباح السبت، سيطر خبره على محتوى الميديا السوداني، وتسبب منظر الخرق الذي قسمه إلى نصفين في شعور السودانيين بحزن شديد؛ فللجسر دلالة رمزية ونفسية وتاريخية بل حتى سياحية، ويشكل عبوره لحظة نفسية بمثابة روشتة للعلاج يكتبها طبيب نفسي لمن يعاني من القلق أو الاكتئاب، فالمسافة القصيرة التي يقطعها العابر بين المدينتين تمثل برهة من الطمأنينة مقتطعة بمهارة من محيط الضجيج المديني المعبأ بكل أنواع القلق الوجودي والمعيشي، وعلى مرمى ضفة منه يرى العابر نهر النيل والبساتين المجلوة بالخُضرة تقبع على طول ضفافه.

كل ما يمكن أن يقال هنا إن جسر شمبات ليس مجرد معبر يربط بين أم درمان والخرطوم، وإنما هو في الواقع أحد معالم الهوية الجمالية المهمة للخرطوم نفسها ولجغرافيتها، لذا فإن ردود فعل السودانيين كانت تعبر عن حزن عميق لتدمير هذا المعلم.

كلا الجانبين يتهم الآخر بتدمير الجسر، إلا أن المفاجأة هذه المرة أن بيان الجيش قد سبق بيان الدعم السريع، وقبل أن ينتشر حتى خبر تدمير الجسر. لكن واقع الأمر يرجح ضلوع الجيش في تدميره عن طريق الطيران، لأن الواقع الميداني في العاصمة نفسها يشهد سيطرة الدعم السريع الواضحة على مدينة الخرطوم العاصمة وأجزاء كبيرة من بحري وأم درمان. ويوضح هذا المسار العملياتي أن الجهة التي لها مصلحة في تدمير الجسر هي الجيش السوداني خصوصاً وأنه في الآونة الأخيرة أصبح يعتمد بشكل كامل على الطيران بعد الفشل الواضح للمشاة في الكثير من المعارك وتكبد الجيش خسائر وفقدانه مواقع إستراتيجية ورمزية مهمة مثل سلاح المدرعات وحصار سلاح المهندسين في أم درمان والقيادة العامة نفسها في الخرطوم، رغم خروج الفريق البرهان قائد الجيش ورفيقه الفريق كباشي ووصولهما إلى بورتسودان.

أكثر من مراقب ومحلل، والرأي العام نفسه، لم يصدقوا رواية الجيش بأن الدعم السريع هو من قام بتفجير الجسر، نسبة إلى الحيثيات التي ذكرناها، والمتعلقة بوقائع التوازنات الميدانية التي تظهر تراجع الجيش ميدانيًّا بجانب كلية القادة والأركان أو كلية نميري العسكرية، وهي الكلية المتخصصة في منح الدرجات العليا العسكرية.

◙ جسر شمبات ليس مجرد معبر يربط بين أم درمان والخرطوم، وإنما هو في الواقع أحد معالم الهوية الجمالية المهمة للخرطوم نفسها ولجغرافيتها

إن هنالك دراسات حول الإستراتيجيات العسكرية المحتملة لحماية الخرطوم، ومن بينها تدمير الجسور، حيث أن الوضع الجغرافي للخرطوم يجعلها أقرب إلى شبه جزيرة بين النيلين الأبيض والأزرق، كما أن التاريخ يحفظ محاولة لتفجير جسر القوات المسلحة على النيل الأزرق في العام 1976 إبان هجوم تعرضت له الخرطوم من قوات الجبهة الوطنية المعارضة القادمة من ليبيا معمر القذافي آنذاك، والمدعومة من نظامها. وكانت الجبهة الوطنية حينها مكونة من حزب الأمة والإخوان المسلمين والحزب الوطني الاتحادي. والغريب أن نظام مايو وقتها أطلق على هذه المحاولة العسكرية اسم “انقلاب المرتزقة”، لأن أغلب عناصر مقاتليها من حزب الأمة كانوا من دارفور، فتم وصفهم بأنهم مرتزقة قادمون من تشاد، ولم يختلف الوضع الآن مع أفراد قوات الدعم السريع، وتمت إضافة دولة النيجر إلى تشاد هذه المرة لانتزاع صفة السودانية من جنود الدعم السريع حتى يتطابق وصفهم مع الصورة الذهنية للقادم الغريب من وراء الحدود، وكأن هذه البروباغندا التي تُقسِّم بين الوطني والأجنبي مازال يتم تبادلها كلما تعرضت السلطة في الخرطوم لتهديد يسعى لتغيير بنية تركيبتها.

يبدو أن تدمير الجسر كان المقصود منه قطع إمدادات الدعم السريع والمحافظة على ما تبقى من سيطرة الجيش على بعض مناطق أم درمان، خصوصاً منطقة وادي سيدنا العسكرية شمال أم درمان حيث يوجد مطار عسكري مهم، وإذا تمت السيطرة عليه من قبل قوات الدعم السريع المتقدمة تجاهه فذلك يعد بمثابة ضربة قاصمة في هذه الحرب. لكن يجب القول هنا إن قصف جسر شمبات يبدو تصرفا هستيريّا، يتناقض مع حالة التفاؤل العام التي سادت بعد جلوس طرفي الاقتتال إلى طاولة الحوار في جدة برعاية السعودية والولايات المتحدة. ومن الواضح أن المركز القيادي للجيش انتقل بشكل مؤثر إلى أنصار النظام القديم من الإسلاميين، وأن البرهان نفسه خرج من التأثير داخل القرار الميداني، ليكون القرار الميداني تحت قبضة أنصار نظام البشير من الإسلاميين، إذ تُعتبر هذه الحرب بالنسبة إليهم حرب وجود كتنظيم هيمن من قبل على كل مؤسسات الدولة السودانية، فأصبح وجوده مرتبطاً عضويّا ببقائه في السلطة، لا يهمه في سبيل ذلك تدمير كل جسور السودان، بل السودان نفسه، ليبقى هو وتبقى مصالحه، ويبقى الهدف إفشال مفاوضات جدة حتى لا يتم التوصل إلى سلام شامل في السودان. وجدير بالقول إن تدمير جسر شمبات وربما جسور أخرى في الطريق يضعنا أمام وضع هستيري لأنصار النظام القديم.

9