تخفيف الضغوط الاجتماعية لا يضمن هدوءا سياسيا في مصر

القاهرة - يؤكد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي كل يوم انحيازه للطبقات الفقيرة، حيث يقدم المزيد من الدعم المادي لشريحة تضم نحو ستين مليون نسمة ويوفر لجزء من هؤلاء عددا من برامج الحماية الاجتماعية المتباينة، لكن يبدو أن كل ذلك لا يكفي لتقويض تداعيات الأزمة الاقتصادية الحادة، فقرر أن يوفر لهم دفعة معنوية من خلال مشاركتهم مائدة الإفطار ليؤكد أنه يعيش أوجاعهم عن كثب.
وحضر الرئيس السيسي حفل إفطار الأسرة المصرية في حي الأسمرات الواقع على أطراف القاهرة، الخميس، وشهد الحفل حوارات إنسانية عديدة وأشارت الكلمات التي تضمنتها إلى أن سكان هذا الحي العصري الذين نقلوا إليه بعد أن عاشوا عقودا في كنف عشوائيات لا يتوفر لها الحد الأدنى من الحياة الآدمية باتوا في أفضل حال.
وعبّر الرئيس المصري عن سعادته بهذه الحياة قائلا “طالما الناس في أحسن حال يبقى حلمي ماشي في الطريق الصحيح.. حلمي لسه مخلصش (لم ينته)، أمتى أشوف (أرى) كل المصريين وهم في أحسن حال”.
واقتنص معارضون هذه المفردات من تصريحات السيسي، ورأوا فيها تناقضا واضحا مع الواقع القاتم الذي تعيشه فئة كبيرة من المواطنين، وسخّر الموقف للتأكيد على أن هناك تجميلا متعمدا لحياة الفقراء وسطوا على معاناتهم، واستثمروها في تعزيز منهج الانتقائية الذي تستثمر فيه أجهزة الدولة وتغفل عن الملايين من الأسر التي تعيش حياة بائسة.
المستفيدون من البرامج الاجتماعية قلة وسط كتلة سكانية تصل إلى مئة مليون نسمة، نصفها تحت خط الفقر
وكتب المعارض والناشر المصري هشام قاسم على صفحته الخاصة على فيسبوك ما يفيد بأن الرئيس السيسي يتجاهل الحقائق المريرة على الأرض، أو تصل إليه معلومات مغلوطة من الجهات الأمنية لتضليله، وفي الحالتين توجد أزمة في منظومة الحكم.
وتشير الكثير من المعطيات إلى أن النظام المصري معني بتخفيف الضغوط عن الفقراء بشكل خاص، ويسخّر العديد من الأدوات لهذا الغرض، ويراه مقدما على الإصلاحات السياسية وما تنطوي عليه من حريات في التعبير عن الرأي والإفراج عن المعتقلين، ولذلك قصر منظومته الخاصة بحقوق الإنسان على توفير المأكل والملبس والمشرب والسكن، أو بمعنى أدق التركيز على الاحتياجات الضرورية ما دون السياسية.
وتبنت الحكومة المصرية العديد من البرامج الاقتصادية والاجتماعية لتوفير مساعدات عينية للفقراء، لإحداث توازن فيما يوصف بـ”البذخ” في الصرف على إنشاء المدن الجديدة والقصور وعقد المؤتمرات كي لا تظهر وكأنها معنية بالأغنياء وتوفير الرفاهية لهم.
ويؤكد الانحياز للفقراء شكلا أن الحكومة قريبة من أوجاعهم وتسعى لمساعدتهم وحل أزماتهم، لكن مضمونا المسألة في غاية الصعوبة، فلن تستطيع الدولة توفير المليارات من الجنيهات لتغيير حياة نصف الشعب المصري تقريبا إلى الأفضل، ومن هنا يتم تسليط الأضواء على الفعاليات الاجتماعية التي يحضرها الرئيس السيسي وتغليفها بطابع إنساني لتصل الأهداف السياسية التي يريدها إلى شريحة كبيرة من المواطنين.
ما تنفقه الدولة المصرية لمساعدة الفقراء في مجالات مختلفة كبير، غير أن الأزمة في ارتفاع فاتورة الإنفاق
وتأتي المشكلة من أن إمكانيات الدولة لن تسمح بسد رمق الملايين من المصريين، وكل ما يحدث يرمي إلى تحييد أكبر فئة من الفقراء يعانون أكثر من غيرهم بسبب تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية في البلاد، وهم الطبقة الأكثر استعدادا للانفجار في الشارع إذا لم يجدوا من يلبّي جزءا من مطالبهم، أو افتقدوا الجانب العاطفي من النظام، والذي يخشى رد فعل هؤلاء أكثر من غيرهم، لأنه سيأتي انتقاميا وعشوائيا.
كما أن النظام المصري قلّص الأجنحة المسلحة للتنظيمات المتطرفة وأخرجها من المعادلة الحركية، وقصقص معظم الأدوات السياسية للأحزاب، وقضى تقريبا على دور النقابات المهنية والعمالية، وأحكم السيطرة على وسائل الإعلام، ولا يخشى منهم الآن، لكنه ينزعج كثيرا من أيّ تصرف سلبي غير محسوب يأتي من البسطاء، الأمر الذي جعله يوليهم اهتماما ظاهرا، بصرف النظر عن الحصيلة المترتبة عليه.
ويقول متابعون إن ما تنفقه الدولة المصرية لمساعدة الفقراء في مجالات مختلفة كبير، غير أن الأزمة في ارتفاع فاتورة الإنفاق، والمشاكل معقدة ومركبة ولن تستطيع المليارات التي تنفق في برامج الحماية تلبية الاحتياجات الأساسية لكل الناس، ويظل المستفيدون قلة وسط كتلة سكانية ضخمة تصل إلى مائة مليون نسمة، نصفها تقع تحت خط الفقر.
النظام المصري يرى أولوية قصوى في كبح جماح التململ في أوساط الفقراء ويلجأ إلى الدعم المادي المحدود والتعاطف الإنساني
ويضيف هؤلاء المتابعون أن النظام المصري يرى أولوية قصوى في كبح جماح التململ في أوساط الفقراء ويلجأ إلى الدعم المادي المحدود والتعاطف الإنساني كوسيلة للحد من أيّ محاولات مفاجئة لإظهار التذمر من الأوجاع الاقتصادية يمكن أن تقود إلى انفجار بركان الكبت المكتوم وخروجه إلى الشارع.
وتقيم الحكومة المصرية معادلتها الاجتماعية على ذلك، حيث تعلم أن اتساع المسافة بينها وبين الفقراء يمثل خطرا كبيرا على النظام الحاكم الذي يسعى لسد الفجوة العامة بطرق مختلفة، إلا أن الموارد المحدودة لا تمكنه من ذلك، والأجواء
الداخلية والخارجية لن تسعفه في إيجاد وسائل منتجة خلال فترة قصيرة، ناهيك عن التصورات الاقتصادية التي يتبناها في الوقت الراهن وهي تواجه عثرات جمة.
ويحظى تقليل أوجاع الفقراء بأولوية كبيرة في سياسات الدولة المصرية من منطلق أن هذه الحلقة الأضعف وعملية سد مطالبها مضنية، ما يجعل عملية تخفيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية عنها لا يضمن هدوءا سياسا كافيا للسلطة، فقد يحدث انفلات أو فوضى في أيّ لحظة نتيجة صعوبة الوفاء بكل مطالبهم الرئيسية.
ويعني الوصول إلى هذه النقطة أن الدولة سوف تصل إلى مرحلة تعلن فيها صراحة أنها غير قادرة على تحمل أعباء إضافية، لأن الفقراء ترتفع أعدادهم بسبب الزيادة المتدرجة في نسبة التضخم والبطالة وارتفاع الأسعار، والعيوب الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد ولا تجد الحكومة وسائل ناجعة للحد منها، ما ينعكس في النهاية على المجتمع.