تخبط الحكومة في مواجهة الغش يرفع نسب الرسوب في الجامعات المصرية

حيل الغش الحديثة عند الطلاب تفوق قدرات المؤسسات التعليمية على مراقبتها.
السبت 2024/03/02
التساهل مع الغش يزيد من تفاقم الظاهرة

سجلت جامعات مصرية عريقة نسب رسوب مرتفعة أرجعها الجامعيون إلى الغش في امتحانات الثانوية العامة وتساهل لجان المراقبة مع الطلاب الغشاشين. وتعمل الحكومة المصرية على تحجيم ظاهرة الغش لكن دون جدوى طالما أنها لم تدرس الأسباب الحقيقية وراء الظاهرة ولم تقم بتحليلها. ويرى مراقبون أن الغش في الامتحانات عند بعض الشباب هو دليل للتمرد على نظام تعليمي برمته.

القاهرة - أثار ارتفاع نسب الرسوب في جامعات حكومية مصرية أخيرا جدلا مجتمعيا وأكاديميا، بعد انخفاض معدلات النجاح إلى مستويات غير مسبوقة وصلت إلى 25 في المئة فقط في بعض كليات القمة، ما جعل أصابع الاتهام تطال الحكومة ومؤسساتها التعليمية التي لم تتعامل باقتدار لمواجهة ظاهرة الغش.

أقرت جامعة سوهاج، في جنوب مصر، بأن نتيجة الفرقة الأولى بكلية الطب سجلت نسبة رسوب بلغت 75 في المئة، بينما أعلنت كلية الصيدلة بالجامعة نفسها أن نسبة الرسوب بلغت 79 في المئة، وهناك نسب قريبة في جامعتي أسيوط والوادي الجديد.

اتهم مسؤولون جامعيون وقائع الغش في امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا) بأنها السبب في انخفاض نسبة النجاح في عدد من كليات الطب والصيدلة، وسط تراخ من الحكومة بشأن وضع حلول جذرية لأزمة انتشار الغش، وما ترتب عليها من التحاق طلاب بكليات لا يستحقونها أو يتحملون صعوبتها.

تثار كل عام، أزمة وجود لجان بعينها في امتحانات البكالوريا مصنفة إعلاميا بأنها “مخصصة لأبناء الأكابر”، حيث تنتشر فيها وقائع الغش، وتتسرب منها أسئلة الامتحانات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تتخذ إجراءات صارمة ضد طلابها والمسؤولين عن لجان الغش، وحرمان الغشاشين من دخول كليات القمة.

ورغم نفي وزارة التربية والتعليم وجود لجان مخصصة لما يسمى بـ“أولاد الأكابر” يسمح بها في الغش بشكل شبه رسمي، وتقول إنها نجحت في القضاء على هذا المصطلح، إلا أن وقائع الرسوب الجماعي في بعض الكليات فضحت الغش المقنن، وكشفت التحايل للنجاح بطرق ملتوية، وأنه حالة شبه عامة وليست فردية.

طرق مبتكرة للغش

الغش يقلل من قيمة الشهادة العلمية
الغش يقلل من قيمة الشهادة العلمية 

تتشعب أسباب إخفاق الحكومة في مواجهة الغش بالامتحانات، فهناك جوانب تربوية وأخرى متعلقة بطريقة وآلية التقييم ذاتها، وثالثة ترتبط بحداثة وسائل الغش وعدم القدرة على مجاراة الطلاب في ابتكار وسائل لتلقي الإجابات داخل قاعات الامتحان.

تتمسك وزارة التعليم بأن تكون امتحانات البكالوريا بطريقة 85 في المئة أسئلة اختيار من متعدد و15 في المئة أسئلة مقالية، وثمة اتفاق بين خبراء وأكاديميين على أن تلك الطريقة تسهل عملية الغش، ويكفي أنه يمكن بسهولة حل الأسئلة الاختيارية في دقائق معدودة بتحديد الإجابة الصحيحة من بين الخيارات المتاحة لكل سؤال.

المشكلة الأخرى تتعلق بطبيعة المسؤولين عن لجان الامتحانات أنفسهم، إذ يخشى بعضهم مواجهة الطلاب الغشاشين داخل اللجنة ويتلزمون الصمت لتجنب تعريض أنفسهم للعنف أو الاعتداء والترهيب، لأن وقائع الغش تقع في بيئات قبلية غالبا.

يرى متابعون للظاهرة أن المعضلة الأكبر في سبيل مواجهة الغش بامتحانات البكالوريا، وما يترتب عليه من معدلات رسوب مرتفعة في الجامعات، ترتبط بشكل وثيق، بلجوء العديد من الطلاب إلى استخدام طرق متعددة وحديثة للغش، ومهما كانت قدرات الحكومة فإنها ستقف عاجزة عن المواجهة.

من بين الوسائل الحديثة في الغش، الهاتف المحمول وسماعات الأذن متناهية الصغر بنفس لون الجسد، إضافة إلى الحاسبات الآلية الصغيرة المستخدمة في حلّ مسائل الرياضيات، والكتابة بحبر سري لا يظهر إلا بعد وضع قليل من الماء عليه.

المشكلة الأخرى تتعلق بطبيعة المسؤولين عن لجان الامتحانات أنفسهم، إذ يخشى بعضهم مواجهة الطلاب الغشاشين

هناك أيضا طباعة المعلومات على ورق شفاف ملفوف يوضع في أقلام مخصصة، بحيث يمكن فتح الورقة بسحبها من باطن القلم مع وسائل أكثر عصرنة، مثل النظارات الطبية وتتكوّن من عدسات في منتصفها كاميرا فيديو يصعب رؤيتها بسهولة.

وفي نهاية النظارة، قرب الأذن، توجد سماعة لاسلكية متناهية الصغر، وعندما يقرأ الطالب السؤال تنقل الكاميرا ما يقرأه إلى شخص خارج لجنة الامتحان فيقوم بالبحث عن إجابات على الأسئلة، ثمّ يلقنها للطالب عبر سماعة الأذن المثبتة في النظارة.

قال محمد شوقي، وهو معلم اختير العام الماضي للرقابة في إحدى لجان امتحانات البكالوريا، إنه “لا ينسى واقعة قيام طالب بتصوير ونشر ورقة الأسئلة على مواقع التواصل الاجتماعي بواسطة قلم يستخدمه في حل الامتحان، وعندما قمنا بتفتيش الطالب بعد أن توصلت غرفة عمليات وزارة التعليم إلى أنه من قام بتصوير وتسريب الامتحان، لأن ورقته انتشرت وعليها الباركود السري الخاص بها”.

وتابع لـ“العرب”: “وقتها، كان الشك الأول في وجود هاتف مع الطالب استخدمه في عملية التصوير والنشر، لكن لم نجد معه هاتفا، وكنا في حيرة شديدة، كيف صوّر ونشر وليس معه هاتف، وبعد تدقيق اكتشفنا أن التصوير تم بواسطة نفس القلم الذي يستخدمه في حل الامتحان، وكان يرتدي في أذنه سماعة متناهية الصغر لا يراها أحد، متصلة بشبكة الاتصال عبر شريحة هاتف محمول”.

حدد المعلم على تلك الواقعة الكثير من أسباب انتشار الغش في امتحانات البكالوريا، وما يتبعه من رسوب مدو في الجامعات، فهذا الطالب (يقصد من تم ضبطه يغش)، كان يمكن أن يحصل على أعلى الدرجات ويلتحق بكلية قمة لا يستحقها، لكن السؤال ما هي مؤهلات المعلمين والمراقبين كي يتوصلوا إلى وسائل الغش الحديثة؟

آلية الالتحاق بالجامعات

وقائع الغش في امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا) السبب في انخفاض نسبة النجاح في عدد من كليات الطب والصيدلة
وقائع الغش في امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا) السبب في انخفاض نسبة النجاح في عدد من كليات الطب والصيدلة

أشار المعلم ذاته إلى أن “المشكلة ليست في تصوير الامتحان، بل في من يستقبل الإجابات دون أن يكتشفه أحد، فالطالبة المحجبة عندما تُخفي الهاتف وتضع سماعة صغيرة في أذنها تحت حجاب الرأس وتستقبل الإجابة من شخص خارج اللجنة، كيف يمكن اكتشافها؟ هذا شبه مستحيل، إلا لو قامت بتصوير ونشر الأسئلة، لكنها في الحقيقة تكتفي باستقبال إجابات الأسئلة التي تسربت، لذلك لا يتم ضبطها وتنجح بدرجات مرتفعة وتلتحق بكبرى الكليات، ثم ترسب في الجامعة.

يقود ذلك، إلى أن أغراض التعليم الحقيقية اختلفت في مصر، إذ لم تعد وسيلة للعلم ضمن رحلة طويلة قائمة على التأسيس الصحيح، بقدر ما أصبح غاية لتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي، حتى أن هناك الكثير من الأهالي بدأ يتسلل إليهم قبول وسائل غير مشروعة للوصول إلى هذا الهدف، وتزامن ذلك مع انهيار منظومة القيم داخل المؤسسات التعليمية حتى صار الغش مسألة طبيعية.

يتفق أكاديميون على أن المشكلة الأخرى التي تتساهل الحكومة في حلها، وترتب عليها انتكاسات كبيرة وكرّست الظلم والقهر للمجتهدين، تتعلق بآليات القبول في الجامعات بعد مرحلة البكالوريا، حيث تشهد حالة من عدم الانضباط ولا تطبق الحد الأدنى من معايير تكافؤ الفرص، إذ لا تزال بعض الكليات محجوزة مسبقا لأصحاب المجاميع المرتفعة دون وضع اختبارات قبول، للتمييز بين من حصلوا على درجات كبيرة بالغش، وبين من جمعوها بجهد، ومن الطبيعي ارتفاع معدل الرسوب.

ورأى الحقوقي التعليمي والخبير التربوي وائل كامل، وهو أكاديمي في جامعة حلوان بجنوب القاهرة (حكومية)، أن ارتفاع معدلات الرسوب في بعض الجامعات يعكس أن عملية التقييم في الكليات تتم بطريقة نزيهة لا تحتمل التشكيك، لكن ذلك يتطلب أيضا إدخال تعديلات في نظام تقويم وتدريس المناهج في مرحلة البكالوريا.

وقال لـ “العرب” إنه يصعب القضاء على ظاهرة الغش بإجراءات أحادية، وما لم يتم التحرك في مسارات لها علاقة وثيقة بالأزمة سوف تظل معدلات الرسوب في الجامعات مرتفعة، والأهم وجود إرادة حكومية قوية للتصدي للغش، من منطلق أنه يكرس لمخاطر لا يتخيلها أحد، على المجتمع والدولة مستقبلا. ويكفي أن نتوقع كارثة أن وجود مهندس نجح بالغش، فما مصير البناية التي أشرف عليها، أو طبيب نجح بالغش، فما هو مصير المريض الذي سيجري له عملية؟

المساواة البغيضة

مثال عن الوسائل المستعملة في الغش
مثال عن الوسائل المستعملة في الغش

وتابع: “يجب أن تفهم المؤسسات الحكومية أن الغش أسلوب يرسخ الظلم الاجتماعي ويضرب منظومة العدالة في مقتل، وهذا له نتائج خطيرة على نفسية الشباب، لأنه يوسع دائرة اختفاء أصحاب القدرات والكفاءات لصالح الفاسدين أخلاقيا وتربويا، وكل تراخِ في معاقبة المتورطين في الغش يتسبب في انتشار الظاهرة على نطاق أوسع، ويجعل الأغلبية تشعر أن النجاح عبر أساليب الغش أقرب وأضمن”.

لدى الحكومة أدوات ردع لترهيب الغشاشين لا تطبقها، فهناك قانون ينص على رسوب الطالب في جميع الامتحانات إذا ضُبطت معه أي وسيلة غش، لكن وزارة التعليم تمتنع عن تفعيل العقوبة بدعوى الحفاظ على مستقبل الشباب، ويتم تخفيض العقوبة إلى الحد الأدنى برسوب المتورطين في الغش بمادة واحدة فقط، ما شجع البعض على التمادي في مخالفة القانون أمام الرعونة في تطبيقه.

يصعب فصل انتهاج سلوك الغش عن تنامي ظاهرة غياب الحماس عند الشباب للنجاح بالعرق، لشعورهم بأن المجتهد لم يعد له مكان، وقد يتساوى الجميع في النهاية، عندما يحاولون الالتحاق في وظيفة بعينها، وتتدخل المعارف لترجيح كفة أحد الأقارب.

وائل كامل: همم الشباب المصري في التمسك بقيم النجاح بالجهد ضعفت 
وائل كامل: همم الشباب المصري في التمسك بقيم النجاح بالجهد ضعفت 

وينتهج الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أسلوبا يقوم على نسف ميراث الوساطة والمحسوبية، لكن الشباب لم يستوعبوا ذلك بعد، بسبب عدم الثقة في أداء الجهاز الإداري بالحكومة، وأي شيء إيجابي قد تفعله هو ميراث بحاجة لجهود لتغييره.

قبل أسابيع، رسب 14 ألف خريج من حملة الماجستير وتقديرات الامتياز في جامعات مصرية وغيرهم من أصحاب الشهادات المرموقة، في مسابقة توظيف 30 ألف معلم في المدارس ما عكس لأي درجة أصبح الاكتفاء بالشهادة العلمية وحدها ليس كافيا لتحقيق حلم التوظيف في مصر، عكس قناعات الشباب.

ولم يستبعد وائل كامل في حديثه لـ”العرب” أن تكون الأزمات الاقتصادية الراهنة في مصر، وما ترتب عليها من زيادة معدلات البطالة وسوء الأوضاع المعيشية، أضعف همم الشباب في التمسك بقيم النجاح بالجهد، لأنه يصعب على شخص محبط أن يكون ملتزما بتقاليد لن يجني من ورائها سوى خسائر جسدية ونفسية، مع أن أمامه طريقا غير شرعي أكثر سهولة لتحقيق آماله وهي ثقافة مطلوب تغييرهاسريعا.

تظل الخطورة الأكبر أن الغش في الامتحانات عند بعض الشباب هو دليل للتمرد على نظام تعليمي وطريقة أسئلة ترغب من ورائها المؤسسات التعليمية انتقاء شريحة بعينها من الطلاب تلتحق بالجامعات الحكومية، والباقون يلتحقون بكليات استثمارية، وهي ثقافة تكرس الظلم الاجتماعي وتوفر مبررات للغشاشين بأنهم ليسوا مذنبين.

مهما استمرت مطاردة الحكومة للطلاب المراهقين والشباب بغرض تحجيم الغش دون دراسة الأسباب الحقيقية والنزول إلى أرض الواقع بتحليل الظاهرة، ووضع حلول عملية لها سوف تتراكم الأجيال المغيبة بما لا يفيد الدولة وقد يتحول الغش من تصرف طلابي إلى ثقافة مجتمعية.

16