تحولات الثورة السورية تجربة أسلمة أم تجربة إسلامية

د. خالد زغريت
لغة الأرض تحكي غير ما تحكيه لغة التحليل السياسي الذي تطبّع في الكثير منه بمنهج يعتمد آليات نفسية هي قسمة بين الدفاع المؤدلج والهجوم السياسي التكتيكي، وما لمثل هذه التحليلات نصيب الأسد من البراءة والموضوعية.. لغة الأرض تحكي أن الثورة السورية، كانت صحوة عفوية أشعلها حراك الربيع العربي، فجعل المجتمع السوري قميص التأييد المزيف… انطلقت الثورة، وتقدم صفوفها بقايا مثقفي اليسار السوري وشتات الإسلام السياسي، غير أن زخم الشارع تحرك بدوافع الظلم والكبت الأزليين. ولم يكن يعني الشارع الثائر الهوية السياسية للمتأججين معه.. إذ كانوا يريدونها حراكا جماهيريا شاملا يشكل قوى ضاغطة بتعدد هوياته ومؤيديه.
وأدى غياب المعارضة التقليدية والزعامة الوطنية إلى ظهور حراك الشارع يتيما من غير أبوة ثورية فلم يقدر على بناء قادة تتصف بكاريزما تستقطب الجماهير، فتعددت قيادتها ومرجعياتها، فتشتت أساليبها، واستغل النظام تلك الثغرات ليستدرجها إلى كشف هوياتها السياسية، ولاسيما حين أمعن بالتنكيل والقهر والتعسف، فاستدعى ذلك ظهور صبغة إيمانية تمسك بها الثوار لتمكين الصمود إزاء فظائع القمع.
حساسية المجتمع الدولي المعادي للحركات الجهادية تجعله شديد التوتر في قراءة أداء الثورة السورية ومترقبا حذرا
واستمرت التحولات التي قفزت بالحراك السلمي إلى التسليح والقتال إلى أن ظهرت الجماعات الجهادية، وكانت منتهى أماني النظام ليتاح له وصفها بالإرهاب، وهو وصف يستقطب أنصارا كثرا من أقطاب السياسة الدولية المعادية للحركات الجهادية.
وانتكست الثورة، واستلم رايتها الجهاديون، فعاشت فترة في كمون ظاهري إلى أن تأتى لها مجال حيوي توظّف فيه الثورة لمناهضة النفوذ الإيراني وأذرعه.
وتهيّأ لتركيا أن تجد مخرجا للخلاص من عبء اللاجئين السوريين من جهة، ومن أخرى أن تسد ذرائع معارضيها، ومن ثالثة امتلكت فرصة لتوسيع نفوذها الذي يحركه حلم إمبراطوري. وسط هذه الظروف انتصرت الثورة السورية بلواء إسلامي لا يخلو من إشكالية القبول لدى أطراف متعددة إقليمية ودولية. وبمقابل تحولات الثورة السورية كانت هناك تحولات سياسية في أساليب الجهاديين، وخاصة هيئة تحرير الشام التي تميّزت قيادتها ببراعة المخاتلة في تحولات ظاهرة في هويتها، وقدرة على تلونها وفق متطلبات النفوذ الإقليمي والعالمي والمطالب الشعبية.
وبعيدا عن سرديات التحولات المتعددة لهيئة تحرير الشام من الانتماء القاعدي إلى تمثّل صور حركات التحرر الوطنية ثم حملها لواء بناء الدولة المعاصرة. وهي المحطة الأخيرة في بناء السلطة.
القيادة الجديدة تمتلك وعيا بمآلات تجارب الحركات الجهادية وإخفاقها. لذلك ستعمل حاليا على إطفاء نيران غلواء الأسلمة في نفوس الثوار
وفي هذه المحطة تبرز أسئلة شائكة حول الأهداف الحقيقية من بناء الدولة وهويتها ومرجعيتها. من غير شك تهيأت لقائد الثورة السورية كاريزما قيادية براقة، فضلا عن حيازته رمزية الدور التاريخي في تحقيق النصر. كما تميّز بأداء سياسي براغماتي متقن، وأتيح له ظرف هيأ له تعاطفا شعبيا منقطع النظير من أثر مرجعية إسلامية يتبناها، تستقطب جمهورا واسعا، وتقديرا عظيما لدوره في تخليص السوريين من نظام ليس له مثيل في الإجرام والقهر والظلم. هذه السردية هي التي تكشف لنا حقيقة توجه تجربة الثورة السورية، وتبيّن إذا ما كانت تهدف إلى بناء حركة أسلمة عابرة ذات طموح جهادي لأسلمة كونية، تتحطم لها الحدود الجغرافية، أم أنها حركة ثورية ذات مرجعية إسلامية فرضتها مجموعة ظروف موضوعية.
طبعا حساسية المجتمع الدولي المعادي للجهادية، هي شديدة التوتر في قراءة أداء الثورة السورية وهي مترقبة حذرة خائفة، ترصد كل حركاتها وسكناتها. وقد زاد في توترها سلوك بعض المجموعات المرافقة لها وهي مجموعات انبثقت من رحم الشارع وعاشت ظلما ساحقا، يفجرها نقمة وانتقاما تمارسه تحت عنوان أحقية العدالة وبطوابع إسلامية. يضاف إلى ذلك أن المجموعات الجهادية كافة أُعدت إعدادا عقائديا تضمن أفكارا تُرجع أسباب تسلط النظام وممارساته الفاقعة بالظلم إلى غياب العقيدة الإسلامية فترسخ في ذهن الكثير منها توصيفه بالكفر، وتراه منشأ كمية العنف، ونوعية قسوة النظام بالتأكيد لم تكن هذه الثقافة الجهادية ضعيفة في نفوس الثوار، بل هي راسخة تتجلى في أي فرصة تتاح ممارستها.
غير أن ذلك لا يعني أن الأسلمة فكرة أصيلة في ذهنية الثورة السورية المنتصرة بقيادتها الحالية، على الأقل بعد استلامها السلطة. لذلك أصبحت تسعى بكل جهدها الآن إلى تبديد زخم الاحتشاء الثوري العقائدي الذي ينشد الأسلمة. كما تعمل على ضبط سلوكها بترسيخ ثقافة المؤسسات والدولة التي تنتمي إلى مرجعية إسلامية، تعمل على تأسيس دولة معاصرة تحتفظ بهويتها الإسلامية المميزة. من غير شك ذلك يمثل انعطاف القيادة عن القاعدة الجماهيرية ومبادئها. أدى ذلك إلى نشوء صراع داخلي مازال جمرا تحت الرماد، وسوف يستمر إلى فترة غير قصيرة. وهو صراع داخلي في بنية الثورة، لكنه لن يصل إلى مغالبة قتالية تفتت الصفوف. فالقيادة الجديدة تمتلك وعيا بمآلات تجارب الحركات الجهادية وإخفاقها. لذلك ستطفئ نيران غلواء الأسلمة في نفوس الثوار بتمكين مؤسسات ذات مرجعية إسلامية تلقى الحد الأدنى من الرضا ريثما تؤسس قواتها التي تؤهل لفرض نمطها من غير صراع، وسوف تلقى الدعم من القوى الدولية المساندة لها وتدفعها إلى التجمل بصور المؤسسات المعاصرة، وقد يكفل لها ذلك امتداد فترة سلطتها لا ديمومتها.
اقرأ ايضا: