تحدّيات قديمة تعيق برنامج خصخصة الشركات في مصر

تجمع أوساط اقتصادية أن السلطات المصرية لا تملك ترف إضاعة الوقت بشأن الإسراع في تنفيذ برنامج خصخصة الشركات، بعد إنجاز بيع حصة إستراتيجية من شركة الشرقية للدخان كأكبر كيان لإنتاج التبغ في البلاد خلال فترة وجيزة، لإحياء الفرص الضائعة في العديد من المجالات بسبب شح العملات الأجنبية.
القاهرة - تواجه الحكومة المصرية تحديات قديمة تتسبب في عرقلة برنامج بيع الشركات، على الرغم من توافر المستثمرين، خاصة من بعض دول الخليج. ويعاني نظام الخصخصة من ثغرات كثيرة يجب إصلاحها، مردها تأثيرات البرنامج الذي تم تفعيله قبل 32 عامًا ووُجهت له اتهامات مختلفة حول تعمد بيع كيانات الدولة بأسعار بخسة والتفريط في ملكيتها بسهولة.
ويواجه البرنامج الحالي بانتقادات حادة من أعضاء في البرلمان وخبراء اقتصاد وشخصيات عامة منذ الإعلان عنه، وتوقفت الاعتراضات مع استمرار أزمة شح العملات الأجنبية وانهيار الجنيه وعدم قدرة السلطات المصرية التغلب على السوق الموازية للعملات مع صعوبة إتاحة الدولار للمصانع والمستثمرين لشراء الخامات.
وأبرمت القاهرة عام 1991 برنامج إصلاح اقتصادي هيكلي مدعومًا من صندوق النقد الدولي ومصحوبًا بالمزيد من الحوافز للقطاع الخاص في أنشطة اقتصادية عدة، وتم إدخال تشريعات تجارية جديدة وتحرير التجارة والاستثمارات بشكل جزئي، بالتزامن مع أزمة اقتصادية ومالية طاحنة بدأت في ثمانينات القرن الماضي.
وعادت الحكومة المصرية لتنفيذ البرنامج تحت مسمّى آخر، وهو برنامج الطروحات الحكومية، وتم الإعلان عنه في مارس 2018 لتغيير السلبيات التي صاحبت التسمية الأولى، لكن لم ينفذ منه سوى زيادة رأسمال شركة الشرقية للدخان بطرح أسهم بنسبة 4.5 في المئة ثم توقف البرنامج.
أستُؤنف البرنامج في أبريل 2022 ببيع حصص من شركتي أبوقير للأسمدة وإي فاينانس، قبل أن يتوقف البرنامج تمامًا حتى فبراير الماضي، بعد أن أعلن رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي أن البلاد تعتزم بيع حصص في 32 شركة حكومية مع نهاية مارس المقبل، لكن وتيرة التنفيذ لا تزال تسير ببطء.
ونفذت السلطات أولى عمليات البيع الفعلي لكيانات الدولة الرابحة بعد أن استحوذت شركة جلوبال للاستثمار القابضة الإماراتية على حصة تبلغ 30 في المئة في شركة الشرقية للدخان، المدرجة في البورصة، كأكبر منتج للتبغ بمصر، في الثاني من سبتمبر الجاري، في صفقة تجعل جلوبال أكبر مساهم منفرد في الشرقية. وتدفع الشركة الإماراتية 625 مليون دولار إلى الشركة القابضة للصناعات الكيماوية مقابل الحصة، في صفقة تقدر قيمة الشركة بأكثر من ملياري دولار.
بيع كيانات رابحة
وتمنح الشركة الإماراتية 150 مليون دولار لمساعدة الشركة في شراء المواد الخام، وهذا المبلغ بمثابة تمويل، إضافة إلى قيمة الاستحواذ، والذي سوف يسترده المستثمرون الجدد في فترة لاحقة من أرباح الشركة. وجاءت الصفقة غير متوقعة تمامًا، لأن الشركة القابضة للصناعات الكيماوية، صاحبة حصة الأغلبية في الشرقية للدخان، كانت قد أعلنت قبل أقل من أسبوعين أنه يمكنها بيع 15.3 في المئة فقط من حصتها في الشركة، لكن بموجب الاتفاق الجديد تنخفض حصة الشركة القابضة من 50.95 في المئة إلى 20.95 في المئة.
وبسرعة غير متوقعة أيضا لم تظهر الشائعات بشأن احتمال بيع حصة في الشركة الشرقية إلا في يونيو الماضي، حينما أبدت مؤسسة إماراتية اهتمامًا بالشركة، وأقرت الشركة القابضة للصناعات الكيماوية علنًا بوجود محادثات بشأن صفقة محتملة للمرة الأولى أواخر شهر أغسطس الماضي.
وتؤكد الصفقة توافر المستثمرين الراغبين في الشراء، وعلى الحكومة أن تبرهن للمؤسسات العالمية أنها جادة في التخارج من كياناتها لإفساح المجال للقطاع الخاص، لكن هذه الخطوة ليست ملك السلطات حتى الوقت الحالي، لعدم قدرتها على التحكم بقوة في العروض التي يقدمها المستثمرون لشراء الشركات.
ويرجع نجاح تنفيذ خصخصة شركة التبغ إلى أن بيع الشركات الحكومية المدرجة في البورصة أسهل من نظيرتها غير المطروحة بسوق المال أو المملوكة للدولة بشكل كامل، لأن سعر سهم الشركة المدرجة معروف ويُعرض على شاشات التداول، ونتائج أعمالها خلال عام أو أكثر متاحة للجميع وغيرها من المعلومات التي يبحث عنها المستثمرون، من ثم لا تحتاج إلى فحص مالي ناف للجهالة مثل تلك المملوكة للجيش.
ويعد الفحص تقييما مفصلا للوضع المالي الحالي للشركة التي يتم تحليلها ويشمل قدرتها على تحقيق أرباح في المستقبل القريب، ويتم تقييم جوانب مالية مختلفة من الأعمال التجارية، أي الأصول والالتزامات والإيرادات والتكاليف والمدينون والدائنون والديون المصرفية والضوابط المالية ونظام التخطيط وسلامة المعلومات الإدارية وجودة التقارير.
ويستغرق الفحص المالي النافي للجهالة عدة أشهر، ومن أبرز المجالات التي يتم اللجوء إليه فيها هي الاستحواذ على حصة مؤثرة من كيان، الاندماج بين كيانين، بيع جزء من الأصول، وبيع حصة مؤثرة من كيان، وكلها متوافرة في الحالة المصرية.
تكمن الأزمة أيضًا في تأخير الخصخصة في التراجع الكبير للعملة المصرية، حيث تتم عمليات تقييم وتحديد القيمة العادلة للشركات بالجنيه، فيما يدفع المستثمرون الأجانب المبالغ بالدولار، وهنا تظهر القيمة كأنها ضئيلة رغم أن التقييمات جرت وفق الأسس العلمية والمالية الدولية المتعارف عليها.
وعلى سبيل المثال، صفقة الشرقية للدخان تم بيع نحو 4.5 في المئة عام 2019 بقيمة 180 مليون دولار بسعر 1.8 دولار للسهم الواحد، لكن في العملية الأخيرة جرى بيع 30 في المئة بنحو 625 مليون دولار بسعر 0.93 دولار، أي بنحو نصف قيمة البيع منذ 4 سنوات، وما حدث هنا أن سعر الجنيه المصري هو الذي تراجع، وهذا لا يعد عيبًا في تنفيذ الصفقة وفقًا لآليات سوق المال.
وقال رئيس الجمعية المصرية للأوراق المالية محمد ماهر لـ”العرب” إن صفقة بيع الشرقية للدخان كانت إيجابية للغاية، وسعر السهم يفوق قيمته السوقية، وقيمة الدولار تم تقييمها بالسعر الرسمي، علما بأن نسبة الأسهم المباعة لا تستحق قيمة أكثر من الحالية، حيث تصل إلى نحو 20 مليار جنيه (حوالي 625 مليون دولار).
ويمكن القول إن أهمية الشرقية للدخان ككيان في مصر لا يتم النظر إليه من قبل السلطات من جهة تحقيق الأرباح أو أنها تُنتج سلعة إستراتيجية، لكن من جانب الضرائب التي تحصل عليها الحكومة، وتبلغ نحو 65 مليار جنيه سنويًا (نحو ملياري دولار)، ويدفع المستهلك نحو 70 في المئة من قيمة علبة السجائر ضرائب للدولة، ومن ثم هذه القيمة مستمرة، سواء تم بيع الشركة أو ظلت مملوكة للحكومة.
وأوضح ماهر لـ”العرب” أن الحكومة يجب أن تُسرع في خصخصة الشركات، فليس ثمة بديل آخر لحل أزمة نقص الدولار في البلاد سوى هذا المسلك، مع عدم الاكتراث بالانتقادات الموجهة لبيع الأصول لأن غالبيتها غير مبنيّ على أسس علمية.
وأكد رئيس الجمعية المصرية للأوراق المالية أن التغلب على مشكلة تقييم الأصول يتطلب مرونة تفاوضية في تحديد قيمة الأسهم بين الحكومة والمستثمرين، ويوجد المستثمر الذي يرغب في شراء الشركات، مقترحًا عدم خفض قيمة الجنيه مرة أخرى حاليًا، لكن تحديد ثمن السهم يجب أن يراعي إمكانية خفض العملة لاحقًا.
وتشير صفقة بيع الشرقية للدخان إلى أهمية البورصة وكونها تلعب دورًا حاسمًا في بيع الشركات وتسريع الخصخصة، لذا ينبغي على السلطات تحفيزها وعدم التطرق إلى فرض ضريبة على أرباح البورصة، لأنها العامل الأكبر الطارد للمستثمرين، لاسيما أنهم يدفعون رسومًا على عمليات البيع والشراء.
النقطة الحاسمة
لعبت سوق المال دورًا مهما في عدد من البلدان المجاورة لخصخصة بعض الشركات بطريقة ناجزة وناجحة، ولعل المثال الأبرز في هذا الصدد ما قامت به المملكة العربية السعودية من جمع نحو 30 مليار دولار خلال الأعوام الخمسة الماضية ببيع حصص في شركة أرامكو.
وتدرس السلطات السعودية بيع حصة جديدة من أرامكو تصل قيمتها إلى 50 مليار دولار من خلال طرح ثانوي للأسهم في بورصة الرياض خلال الفترة القليلة المقبلة.
وتستطيع الحكومة المصرية أن تصل إلى النقطة الحاسمة لتنفيذ برنامج الخصخصة عندما تتخلى عن مقارنة قيمة أصول الشركات بالجنيه مع سعرها بالدولار، لأن هذه الشركات كائنة في السوق المحلية وتتعامل بالجنيه وأرباحها بالعملة المحلية ومملوكة للدولة بشكل كامل.
وذكر المحلل الاقتصادي المصري عادل عبدالفتاح لـ”العرب” أن الحكومة ليست أمامها خيارات سوى التخلص من حصص بالأصول التابعة لها، وارتفاع قيمة الديون والالتزامات المستحقة بالدولار هما السبب في بطء عملية الخصخصة، إذ ترغب الحكومة في تقييم الشركات بقيم أعلى من سعرها لتحصل على أكبر قدر من الدولار.
وتستهدف القاهرة جمع نحو 5 مليارات دولار مع نهاية العام المالي الجاري في يونيو المقبل عبر بيع عدد من كياناتها، ويعد برنامج الطروحات العنصر الأكبر في خطط الحكومة لجذب 40 مليار دولار من الاستثمار الخاص مع حلول عام 2026 ومضاعفة دور القطاع الخاص في الاقتصاد إلى 65 في المئة.
وأضاف عبدالفتاح لـ”العرب” أن السلطات يجب أن تُدرك أنها تحصل على ميزة من بيع الشركات للأجانب بشكل مباشر دون الطرح في البورصة، حيث تحصل على الدولار في وقت تحتاج إليه، حتى لو تم التقييم بالجنيه ثم تحويله بالسعر الرسمي للحصول على الدولار.
ويصعب اعتبار بيع الشرقية للدخان أداة تسرّع من برنامج الطروحات الحكومية أو خصخصة الشركات أثناء المرحلة المقبلة، بل إن السلطات تدرس العروض التي تقدم إليها من أجل اختيار الأنسب، وكي لا تقع في خطأ الخصخصة في السنوات الماضية.
ومع إدراك المستثمرين الحاجة الملحة للدولة المصرية لجذب الدولار، ربما يقدمون عروضًا بأسعار رخيصة للأصول استغلالاً للظروف الحالية، لكن الخطوة التي خطتها القاهرة تؤكد أنها جادة في إفساح المجال بشكل أكبر للقطاع الخاص المحلي والأجنبي.