تجار السعادة

من يعتقد أن كرة القدم هي مجرد لعبة فهو مخطئ، ومن يتصوّر أن هذه الرياضة لا تعدو أن تكون مجرد وسيلة للتسلية فهو مخطئ أيضا، أما من كان يعتبر أن تلك “الفاتنة” المدوّرة هي رياضة يستغلّها البعض لخدمة مصالح اقتصادية وسياسية فحسب، فهو كذلك مخطئ.. فكرة كرة القدم قد تكون وجدت لإسعاد محبيها وإدخال البهجة في قلوبهم.
الأمر الذي دفعني إلى الحديث عن قيمة كرة القدم كمصدر أساسي لبثّ الغبطة والحبور ومصدّر أول لحبوب السعادة، هو حصول تأكيد جديد على مدى تأثير هذه الرياضة في قلوب البشر، وأعني بذلك محبيها وعشاقها، وما حدث الثلاثاء الماضي ألح عليّ بضرورة الخوض في تأثير هذه “الفاتنة” الساحرة.
جمعني لقاء، الثلاثاء، بأحد أترابي في إحدى المقاهي بالحي، كان يعشق فريق ليفربول ويشجّعه بلا هوادة، هذا المحب أصرّ على متابعة لقاء إياب الدور ربع النهائي لدوري الأبطال بين ليفربول ومضيّفه مانشستر سيتي، طلب من النادل أن يفتح القناة الناقلة لهذه المباراة، رغم أنها تقام في التوقيت نفسه مع مباراة برشلونة ومضيّفه روما.
بحكم سلطته المعنوية رضخ الجميع لمشيئة صديقي، بدأت المواجهة فسجل السيتي هدفا مبكرا للغاية، لكن هذا الصديق كان واثقا أن فريقه المحبّب سيعود في النتيجة، فسجّل المصري محمد صلاح هدف التعادل الذي حسم المواجهة نهائيا إذا أخذنا بعين الاعتبار نتيجة مباراة الذهاب، ليدخل صديقي في دوّامة من الفرح العارم، فرحة هيستيرية انتابته، بل هي سعادة غامرة دفعته إلى الرقص وسط المقهى.
ظننت لوهلة أنه ولد في ليفربول أو أنه يحمل أصولا إنكليزية خالصة، لكنني أعرف جيدا أنه يعيش في العاصمة التي لم يغادرها أبدا، بيد أنني أيقنت فعلا أن سحر الكرة يفوق في تأثيره أي سحر آخر، هو سحر يدغدغ الأحاسيس والمشاعر ويبثّ في النفس عواطف أقوى بكثير من أي شيء آخر إذا كان المتلقي مثل صديقي مهووسا ومتيّما بهذه “الفاتنة” وتحديدا بفريق معيّن.
أدركت حينها أن ليفربول الذي تاه لسنوات وابتعد عن المنافسات القوية والتتويجات عائد بقوة، أيقنت أن لهذا الفريق تأثيرا بات أكثر قوّة مع المدرب الحالي يورغن كلوب ومجموعة اللاعبين الذين يقودهم “أيقونة” الكرة العربية ونجمها الأول محمد صلاح.
تلك السعادة الغامرة التي لمستها لدى صديقي من المؤكّد أنها لم تكن حكرا عليه، فجماهير “الليفر” استمتعت هذا الموسم بالنتائج الرائعة التي حقّقها فريقهم، استمتعت وسعدت كثيرا بعد أن استعادت بالذاكرة تلك الملاحم التي طبعت تاريخ ناديهم العريق، والفضل يعود في ذلك إلى تجّار السعادة الجدد.
لقد استحضرت في مخيلتي أحداث مسلسل مصري عرض منذ سنوات قليلة عنوانه “تاجر السعادة”، هذا المسلسل يروي حكاية رجل ضرير منح السعادة لجميع متساكني قريته بفضل وصفاته “السحرية”، كان ذلك الرجل يبيع الوهم، ولكنه وهم لذيذ صبغ كل ألوان السعادة على ما حوله.
لكن في ليفربول يوجد أكثر من تاجر سعادة، وهم لا يبيعون الأوهام، بل ينثرون البسمة في أفواه كل المولعين بالفريق، فاليوم لم يعد في الفريق تاجر واحد يمنح السعادة بل هم كثر، فما تحقّق صلب الفريق هذا الموسم يعتبر بكل المقاييس إنجازا وعملا مُمتعا، لأن ليفربول يحتل حاليا المركز الثاني في ترتيب الدوري الممتاز ويراهن بكل جدية على احتلال مركز الوصيف، كما أنه يقدّم مستوى رائعا وأداء حماسيا جلب إعجاب كل مناصري الكرة الجميلة، والأكثر من ذلك، بل لنقل الأهم من ذلك بكثير أن هذا النادي بلغ المربع الذهبي لدوري الأبطال ليستعيد ذكرياته المجيدة في أمجد المسابقات الأوروبية التي حاز خلالها خمسة ألقاب لا تنسى.
لقد بلغ الفريق مرتبة عالية وأبهر كل مناصريه بفضل اللوحات الممتعة واللمحات الفنية المدهشة التي قدّمها إلى حد الآن تجار السعادة الجُدد وقائدهم المدرب المبتسم دائما يورغن كلوب.
هذا المدرب نجح في ابتكار توليفة مميزة من اللاعبين الأشدّاء، ورغم خروج كوتينهو الذي فضّل بهرج برشلونة، إلاّ أن المدرب الألماني وفّق في إخراج كل الأشياء الجميلة لدى لاعبيه على غرار البرازيلي فيرمينهو والسنغالي ماني وخاصة الفرعون المصري محمد صلاح.
ربما يصح القول إن صلاح كان التاجر الأكثر “شطارة” فمزاياه عديدة ومواهبه جواهر خالدة وإنجازاته في موسمه الأول مع ليفربول عانقت الروعة والخيال ووصلت به، بل وأوصلت ليفربول إلى مكانة عالية بين “أسياد” أوروبا، لقد بيعت معظم “تحفه” فمنحت سعادة حقيقية غمرت الجميع.
اليوم بلغ الفريق المرحلة قبل الأخيرة من المسابقة الأوروبية وما تحقّق قد يرضي جماهير ليفربول الذين سعدوا كثيرا بوصول فريقهم إلى المربع الذهبي بعد غياب مستمر عن الأدوار المتقدّمة منذ سنة 2005، لكن ما زال في الجراب الكثير، وما زال لدى هؤلاء التجار الكثير ليقدّموه.
سيكون الحاجز القادم أسوار روما منافس ليفربول في نصف النهائي، وداخل روما كان هناك المعقل السابق لصلاح الذي ما زال إلى اليوم يحتفظ بذكريات رائعة وعلاقات متميزة للغاية مع جماهير فريق العاصمة، كيف لا وهو الذي منحهم سعادة كبيرة الموسم الماضي وساعدهم على التأهل إلى دوري الأبطال.
ومن المؤكد أن المواجهة ستكون قوية وممتعة، لكن خلالها سيتعيّن على صلاح ورفاقه مواصلة صنع الحلم والاستمرار في بيع السعادة لكل من عشق ليفربول وطرب فرحا مع تجار السعادة.